Professor Dr Helmi Al Hajjar, Attorney at law
- Litigation, legal consultation and arbitration.
- Legal advice and services in the field of real estate, financial, commercial civil and administrative contracts and in the preparation of case memorandums for submission to the court of cassation under both Lebanese and UAE laws.
- Over 25 years of experience as a practicing lawyer through his own firm in Beirut, Lebanon in addition to his experience as a judge in Lebanon for 17 years and a judge in the commercial chamber in the court of cassation in Abu Dhabi.
- Professor at the higher institute of Legal studies at the faculty of law and political and administrative sciences at the Lebanese University in Beirut.
- Registered arbitrator at the Abu Dhabi Commercial Conciliation and Arbitration Center
Address: Madame Curie Street - Next to Atlantis - Inaam Building - 6th Floor North 
Mobile: + 961 3 788848, Landline: +961 1 788889
Email: hajjar.legal@gmail.com, emihajja43@gmail.com         

Back

محاماة واستشارات قانونية

أبحاث ومقالات

الطائفية السياسية وطائفية الوظيفة في لبنان - سياسية وعامّة

المحامي الدكتور حلمي الحجار
14/10/2004  //  كتاب السلطة في الدستور اللبناني


الطائفة السياسة D-

الطائفية السياسية وطائفية الوظيفة في لبنان (1)
بقلم المحامي د. حلمي الحجار

 1 ـ جذور الطائفية السياسية في الدستور اللبناني كما وضع عام /1926/: كانت المادّة /95/ من الدستور اللبناني كما وضع بصيغته الأصلية عام /1926/ تتضمن ما يلي:      « بصورة مؤقتة وإلتماساً للعدل والوفاق تُمثّل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة ».
وعند مناقشة نص المادّة/95/ من الدستور في الجلسة التي عقدها مجلس النواب اللبناني بتاريخ 22/5/1926 رفض بعض النواب تكريس مبدأ « التوظيف الطائفي » في حين أيده البعض الآخر.
 وبالفعل قال النائب المنذر« فلنحاذر أن نكرّس في دستورنا مبدأ لم تتبنّه أمة من الأمم»، وعلق النائب طراد على ذلك بالقول إنه « لا وطنية إلاّ إذا حذفت الطائفية » وأضاف « ما لا يكون اليوم يكون في الغد. وقد وضعت المادّة لتأمين اللبنانيين كلهم ومنعاً للخلاف. والأمل أن الإتفاق العتيد يتم بين الطوائف ».
في حين قال النائب داموس أن « الطائفية التي يهرب منها بعض الزملاء كما يهرب السليم من الأجرب لا تبعدني عن الطائفية قيد شعرة » وأضاف « بلدنا ليس كبلاد الله ».
 وقد أقر النائب زوين بوجود الروح الطائفية آنذاك مشيراً إلى مساوئها بالقول: « نعم إن الروح الطائفية موجودة. إنها العلة التي نشكو منها والتي تقتلنا إنها العقبة التي تحول دون وحدتنا، الروح الطائفية هي السبب بوجود الإنتداب نحن متمدنون ولكن بسبب الطوائف وضعنا تحت الإنتداب ...».
 وأضاف « لماذا نحفر الخنادق ونضع فيها البنادق والمترليوزات. يجب أن لا نأخذ بعين الإعتبار إلاّ الكفاية فقط ».
 وأشار النائب عدرا إلى« أن الروح الطائفية هي حالة نفسية لها جذور فينا». وتساءل النائب المنذر تعقيباً على كلام النائب عدرا بالقول هل هي « حالة أم مرض» (2) .
ولكن المناقشات إنتهت إلى إقرار المادّة /95/ بالأغلبية النيابية إذ عارض النواب منذر، وأميل تابت، وشهاب، وحيدر، وزوين، وجورج تابت.
    بالطبع إن المناقشات التي دارت بين النواب عام /1926/ حول المادّة /95/ تظهر أن قاعدة التوزيع الطوائفي كانت ترتكز على جذور تنطلق من نظرة معينة للطوائف بالنسبة لحقوقها في المشاركة في السلطة، وإذا كان بعض النواب أقر بوجود هذا الواقع إلاّ أن البعض الآخر بين مساوئ « التوظيف الطائفي » وأثره السلبي على « الروح الوطنية ».
    ولكن يلاحظ أن /95/ لم تتعرض لأي توزيع للرئاسات على الطوائف بل إقتصرت على التعرض « للوظائف العامة والوزارة»، إلاّ أن إلقاء نظرة على تعاقب رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومات في لبنان خلال عهد الإنتداب تظهر الحقائق التالية:
    ـ الحقيقة الأولى: إن رئاسة الجمهورية كانت تعطى للطوائف المسيحية دون حصرها بالطائفة المارونية على خلاف ما إستقر الوضع عليه بعد الإستقلال. وبالفعل نلاحظ أن بعض أبناء الطائفة الأرثوذكسية تولى الرئاسة الأولى كالرئيس شارل دباس والرئيس بترو طراد، كما تولاها أحد أبناء الطائفة الإنجيلية كالرئيس أيوب تابت بالإضافة إلى رؤساء من أبناء الطائفة المارونية كالرئيس حبيب باشا السعد والرئيس إِميل إدّه والرئيس ألفرد نقاش (3).
    ـ الحقيقة الثانية: إن رئاسة الحكومة لم تخصص لأية طائفة خلال عهد الإنتداب، ولكن يلاحظ أن الطوائف المسيحية هي التي تولت رئاسة الحكومة في الفترة الأولى من عهد الإنتداب حيث توالى عليها ومع حفظ الألقاب كل من: أوغست باشا أديب ـ بشارة الخوري ـ حبيب باشا السعد ثم مجدداً بشارة الخوري ـ ثم إِميل إدّه ـ ثم مجدداً أوغست باشا أديب ـ ثم شارل   دباس ...
    ولكن إبتداءً من عام /1937/ تناوب على رئاسة الحكومة أبناء الطائفة السنية وبعض أبناء الطوائف المسيحية وهم: خير الدين الأحدب ثم خالد شهاب ثم عبد الله اليافي ثم الفرد نقاش ثم أحمد الداعوق ثم سامي الصلح ثم أيوب تابت ثم رياض الصلح إبتداءً من 25/9/1943 الذي أنجزت حكومته الإستقلال وإستمرت لغاية 3/7/  1944 (4) .
2 ـ  ترسيخ الطائفية السياسية بعد الإستقلال: بعد إعلان الإستقلال عام /1943/ بقي نص المادّة /95/ من الدســتور سارياً لجهة وجوب تمثيل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وتشكيل الوزارة، إلاّ أن جديداً طرأ على الموضوع ذاته وعبر ما عرف بالميثاق    الوطني (5) الذي أشار إليه رياض الصلح في الكلمة التي إرتجلها في حفلة النجادة بتاريخ 1/1/1947 حيث قال:
    « عندما دعيت لتولي الحكم وضعت مع زملائي صيغة البيان الذي أشار إليه زميلي الأستاذ فرنجية. ولقد خطبت وتكلمت كثيراً عندئذٍ على الرغم من السيوف المسلطة والمدافع الموجهة إلى الصدور. وإني، بعد أن تم الجلاء، أعيد ما قلته بالأمس.
قلت لفريق من اللبنانيين: أنت تريد إستقلال لبنان بحدوده الحاضرة، فليكن ما تريد وأنت لا تريد معاهدة مع الأجنبي فليكن أيضاً.
وقلت للفريق الآخر: وأنت تريد أن يكون التعاون مع البلاد العربية بأقصى حدوده على شرط بقاء لبنان بحدوده الحاضرة، فليكن ما تريد.
ذلك كان شعارنا وسيبقى، ولكنهم يتهموننا بأننا ننتظر الجلاء لنقول كلمة أخرى غير التي قلناها حتى الآن.
إن هذا غير صحيح، والعهد الذي قطعناه على أنفسنا سيبقى إلى الأبد.
إن في هذا البلد فئة تؤمن بالجامعة العربية. وقد دخلناها كما تعلمون وكنت أول من وقع على الميثاق على أساس التعاون الأكمل مع البلاد العربية. ودخلناها وبيدنا صك كامل بأن لبنان مستقل وسيبقى مستقلاً. فأرجو أن لا تقلق أية فئة. فالوطن هو هو في نظرنا.
إن الإتحاد والتضامن والوئام خير من إمبراطورية. هذا ما قلته حين كنت معارضاً، وهذا ما أقوله الآن وأنا رئيس حكومة، وهذا ما نريده نحن جميعاً وما يريده لنا إخواننا العرب في سوريا والعراق ومصر. وهذه هي مصلحتنا، علينا أن نتقيد بها كل التقيد » (6).
ويظهر أن الميثاق الذي إنصب على قبول المسيحيين والمسلمين بلبنان الكبير كوطن أسفر عن « لبننة المسلمين وعربنة المسيحيين» كما يقول العلامة إدمون رباط الذي يضيف أنه ورد ضمن بنود الميثاق الذي حصل في إجتماع بين رياض الصلح وبشارة الخوري بنداً يقضي بتوزيع
« المناصب في الدولة على جميع الطوائف وإذا كانت الوظيفة تكتيكية روعيت فيها الكفاءة »(7). 
ومن ثم سار التقليد بعد الإستقلال على توزيع مراكز السلطة في الدولة اللبنانية على الطوائف على الشكل التالي:
 ـ تنفرد الطائفة المارونية وحدها، من بين الطوائف المسيحية، برئاسة الجمهورية، وهذا بخلاف ما كان عليه الوضع في عهد الإنتداب حيث تولى رئاسة الجمهورية رؤساء من الطوائف المسيحية الأخرى غير الطائفة المارونية.
ـ تنفرد الطائفة الشيعية برئاسة مجلس النواب.
ـ تنفرد الطائفة السنية برئاسة الحكومة.
وقد طال التوزيع الطائفي أيضاً مجلس النواب حيث درجت قوانين الإنتخاب قبل إتفاق الطائف على توزيع المقاعد النيابية بين الطوائف المسيحية والإسلامية بنسبة ستة للأولى وخمسة للثانية وهو ما عرف بخمسة وخمسة مكرر.
وبالطبع يضاف إلى هذا التوزيع مراعاة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة والوزارة عملاً بنص المادّة /95/ من الدستور.
ولا شك في أن توزيع مراكز السلطة بالشكل المتقدم، وعلى أساس الطائفية السياسية، خلق مشكلة بدأت منذ عهد الإستقلال وقد أشار إليها البيان الوزاري لحكومة الرئيس رياض الصلح بتاريخ 7/1/1943.
 وقد إستمرت المشكلة بعد ذلك بشكل تصاعدي وبالأخص خلال الأحداث التي عاشها لبنان منذ مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وكانت الأوراق والمشاريع الإصلاحية المقدمة من الطوائف الإسلامية والقوى السياسية التي تنتمي إلى تلك الطوائف تنصب على المطالبة بإلغاء الطائفية السياسية، وقد إنتهت تلك المشاريع بإتفاق الطائف والتعديل الدستوري الذي صدر تطبيقاً له بموجب القانون الدستوري رقم 18/90.
3ـ إتفاق الطائف أبقى على الطائفية السياسية كمرحلة إنتقالية ـ أي في الجمهورية الثانية ـ ولكنه خفف من حدتها بعض الشيء: جاء إتفاق الطائف عام /1989/، ومن بعده التعديل الدستوري الذي حصل بموجب القانون رقم 18/90، يَعِدُ اللبنانيين بالعمل على إلغاء الطائفية السياسية. وبالفعل إن المقدمة التي أضيفت إلى الدستور بموجب القانون الدستوري رقم 18/90 نصت في البند « ج» منها على أن « إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضى العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية» وتبعاً لذلك تضمنّت المادّة /95/ من الدستور بصيغتها الجديدة ما يلي:
« على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين إتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية وإجتماعية.
 مهمة الهيئة دراسة وإقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية».
إلاّ أن الفقرات الأخيرة من المادّة ذاتها كما تعدلت بالقانون الدستوري رقم 18/90 نصت على المرحلة الإنتقالية التي تسبق إلغاء الطائفية السياسية، وهذا يعني أن الطائفية السياسية تبقى قائمة في المرحلة الإنتقالية إنما مع تخفيف حدّتها من خلال القواعد التالية التي وردت في تعديل عام /1990/.
ـ بقيت الطائفية السياسية سارية في توزيع المقاعد النيابية، ولكن مع توزيع المقاعد بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين ونسبياً بين طوائف كل من الفئتين ( المادّة 24 من الدستور كما تعدلت بالقانون الدستوري رقم 18/90)، وهذا يعني أن قاعدة خمسة وخمسة مكرر التي كانت قائمة قبل ذلك ( راجع البند 2) قد أُلْغيت.
ـ تمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة ( البند أ من المادّة 95).
ـ يبقى توزيع وظائف الفئة الأولى وما يعادلها خاضعاً لقاعدة التمثيل الطائفي مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وقد تم تخفيف حدة القاعدة بالنص على أن القاعدة تطبق « دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الكفاءة والإختصاص » ( الشطر الأخير من البند ب من المادّة 95).
ـ ألغيت قاعدة التمثيل الطائفي في بقية الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني ( الشطر الأول من البند ب من المادّة 95).
ولكن يلاحظ أن قاعدة عدم تخصيص أية وظيفة في مراكز الفئة الأولى وما يعادلها في المؤسسات الأمنية والعسكرية، لم تطبق بعد عام /1990/ إلاّ في نطاق محدود جداً إذ إن أكثر وظائف الفئة الأولى لا يزال يشغلها أبناء الطائفة ذاتها، وعند شغور المركز يأتي شخص من نفس الطائفة في أغلب الأحيان.
أكثر من ذلك عندما طرح تعديل قانون البلديات، في النصف الثاني من الولاية الدستورية الأولى للرئيس اميل لحود، من أجل إناطة السلطة التنفيذية في بلدية بيروت برئيس البلدية، على غرار بقية البلديات، أثيرت مسألة حقوق الطائفة التي ينتمي إليها محافظ مدينة بيروت بدلاً من أن تثار مسألة تطبيق ما نص عليه البند « ب » من المادّة /95/ بعدم تخصيص أي مركز لأية طائفة
 ومن ثم كنا ننتظر مثلاً أن يصار إلى إثارة المسألة من زاوية إعطاء الطائفة التي ينتمي إليها المحافظ في حينه مركزاً آخر يوازي في أهميته مركز المحافظ والسلطة التنفيذية في بلدية بيروت تطبيقاً للنص الدستوري القائل بعدم تخصيص أي مركز لأية طائفة، ولكن بكل أسف لم نسمع أحداً من المسؤولين يطالب بشكل موضوعي بتطبيق ما ورد في النص الدستوري
4 ـ الآثار الإيجابية للطائفية السياسية ـ الحفاظ على الديموقراطية وضمان الحريات العامة: غني عن البيان أن الدستور اللبناني صدر عام/1926/ وهو مستقى إجمالاً من دستور الجمهورية الثالثة في فرنسا. وهو يعتمد النظام الديمقراطي البرلماني ويضمن الحريات العامة، وإن كان إعتماد النظام البرلماني لم يكن واضحاً بما فيه الكفاية  (8).
     بالطبع إذا كان الدستور اللبناني إستوحي من دستور الجمهورية الثالثة فإن ذلك كان أمراً طبيعياً نظراً لأن لبنان كان لا يزال يخضع للإنتداب الفرنسي، والدستور الفرنسي الذي كان مرعياً آنذاك هو دستور الجمهورية الثالثة.
        وإعتماد لبنان دستور مستوحى من دستور الدولة المنتدبة جاء متوافقاً مع الحركة الدستورية في الدول التي كانت خاضعة للإستعمار أو للانتداب، إذ إن تلك الدول إعتمدت إجمالاً، بعد إستقلالها، دساتير البلدان المُسْتعمِرة أو المُنْتَدَبَة.
     من هنا برزت مشكلة في تلك الدول الحديثة تتعلق بممارسة الديموقراطية السياسية وضمان الحريات العامة، فالدول المُسْتعمِرة أو المُنْتَدَبَة كانت عريقة في ممارستها للديموقراطية ودفاعها عن الحريات العامة ولذلك فإن أوضاعها الدستورية كانت تتلاءم مع واقعها.
        أمّا الدول التي إستقلت حديثاً فإن النظام الديموقراطي أُعْطِي لها رغم أن واقع بعض تلك الدول لم يكن مهيأً لممارسة الديموقراطية، من هنا تحولت بعض تلك الدول عن النظام الديموقراطي البرلماني نحو النظام الرئاسي أو حتى نحو الديكتاتورية متجاهلة الأحكام الدستورية ومن ثم لم تقم وزناً للديموقراطية السياسية وللحريات العامة.
        ولا شك في أن تحوّل تلك الأنظمة عن مسار الحياة الديموقراطية أتى نتيجة أسباب أيديولوجية وإقتصادية وأحياناً بسبب عدم تقبلها فكرة الازدواجية في السلطة وتعلقها بشخص الحاكم بدل تعلقها بالمؤسسة الحاكمة (9) .
  من هنا تبرز ميزة في الحياة الدستورية اللبنانية وهي الحفاظ على الديموقراطية السياسية وضمان الحريات العامة، إذ إنه رغم الشوائب التي شابت الممارسة الديموقراطية، بقي الطابع الديموقراطي هو الغالب والحريات العامة مصونة نسبياً.
        ونعتقد أنه إذا كان للطائفية السياسية سلبيات عديدة، الاّ أنه يبقى لها إيجابية هامة تتمثل بالحفاظ على الديموقراطية ومنع تمركز السلطة حول شخص واحد مع ما في ذلك من تهديد للديموقراطية ذاتها وتهديد للحريات العامة.
 وآية ذلك أنه إذا كان يسهل على الحاكم أحياناً أن يؤمن الولاء لشخصه في المؤسسات الدستورية فكان يتعذر عليه أن يؤمن ولاء الطوائف، من هنا كانت الطوائف تنتصب أحياناً عائقاً أمام الحاكم لمنع تمركز السلطة حول شخصه، ولنا في ذلك شواهد خلال مرحلة الإستقرار السياسي بين مطلع عهد الإستقلال ولغاية أواخر الستينيات، ثم أتت الأحداث التي بدأت عام /1975/ لتعزر تلك الشواهد:
        ـ خلال مرحلة الإستقرار السياسي كان الحاكم يطمح أحياناً للتجديد أو لإختيار معاونيه على أسـاس الروابط الشخصية الأمر الذي يسهل تمركز السلطة حول شخصه، ولكـن الطوائف كانت تنتصب في وجهه إنطلاقاً من حقوقها في المشاركة بالسلطة (10).
ـ خلال الأحداث التي بدأت عام /1975/ وتغييب سلطة الدولة لصالح سلطة قوى الأمر الواقع، فإن السلطة تمركزت حول شخص المسؤول في الطائفة بحيث حلّ ضمن كل طائفة رئيس أمر واقع مطلق الصلاحية، محل سلطة الدولة لأنه لم يكن بإمكان الطوائف الأخرى أن تمنع ذلك.
وبالفعل متى كانت السلطة محصورة بالطائفة فيسهل قيام ديكتاتور ضمن تلك الطائفة في حين يصعب بل يتعذر ذلك متى كان القبول بالسلطة متوقّفاً على الطوائف الأخرى، لأنه إذا تعذر على أبناء الطائفة الوقوف بوجه الحاكم ضمن الطائفة ذاتها فإن مواقف أبناء الطوائف الأخرى يبقى كفيلاً بالحد من جنوحه نحو تمركز السلطة حول شخصه.
أكثر من ذلك إذا قارنا الحياة السياسية في لبنان مع محيطه العربي نجد أن لبنان هو الوحيد الذي بقي خارج دائرة الإنقلابات العسكرية وخارج دائرة توريث رئاسة الدولة، وبالطبع لم يكن ذلك بنتيجة عدم وجود عسكر في لبنان أو بنتيجة عدم الرغبة في توريث السلطة، بل كان ذلك نتيجة تعدد الطوائف وحرص تلك الطوائف على المشاركة في الحياة السياسية بشكل يمنع تمركز السلطة وإستمرارها من خلال شخص واحد.
    5 ـ الآثار الإيجابية للطائفية السياسية ـ على صعيد الإنصهار الوطني ـ إبراز الكفاءات والقدرات الفردية: ترك الطابع الموحد لتركيب السلطة في لبنان آثاراً إيجابية على صعيد الإنصهار الوطني وعلى صعيد إبراز الكفاءات والقدرات الفردية في مختلف المجالات.
فالطابع الموحد لتركيب السلطة وفّر الإحتكاك اليومي بين أبناء الطوائف المتعدّدة مع ما يستتبع هذا الإحتكاك من قيام علاقات شخصية ونقاش في المواضيع العامة والخاصة، وقد تحقق ذلك على جميع المستويات العامة في مجلس الوزراء وفي مجلس النواب وفي القضاء وفي الإدارات العامة كما تحقق في المؤسسات التعليمية من أعلى مستوياتها في الجامعة اللبنانية إلى أدناها في المدارس الإبتدائية.
ولا شك في أن تواجد أبناء الطوائف ضمن المؤسسة الواحدة، سواء على صعيد ممارسة السلطة أو الوظيفة العامة وسواء على صعيد المؤسسة التعليمية، من شأنه أن يقرب كثيراً بين أبناء الطوائف ويساهم في عملية الإنصهار الوطني ، وباستقراء بسيط لتفكير جيل ما قبل   الحرب (11)، سواء على صعيد القيادات السياسية أو على صعيد الأفراد يظهر مدى تأثير الإحتكاك اليومي بين أبناء الطوائف في المؤسسة الواحدة (12) .
    ونعتقد أنه إذا كان لبنان قد إستطاع أن يحافظ على وحدته رغم الأحداث المؤلمة التي ألمت به فإن ذلك بفضل ما رسخ في ذهن الجيل الذي تيسر له إدراك معاني وحدة الوطن ومؤسساته.
    كما أن إشتراك مختلف أبناء الطوائف في تكوين أجهزة السلطة والوظائف العامة ترك وجهاً إيجابياً لجهة إغناء تلك الأجهزة بكفاءات وقدرات من أبناء جميع الطوائف كما فسح المجال لابرازات القدرات والكفاءات الفردية عند مختلف أبناء الطوائف، وآية ذلك أن إشتراك جميع أبناء الطوائف في تكوين أجهزة السلطة وفّر للإدارة إختيار الكفاءات من عموم أفراد الشعب اللبناني.
    وهذا ما فسح للكفاءات والقدرات الفردية مجالاً أكبر للظهور، وآية ذلك أنه لم يكن يضير المسؤول أن تبرز كفاءات وقدرات من أبناء الطوائف الأخرى طالما أن أصحابها لا ينافسونه ولا ينافسون محازبيه على المركز. وهكذا توفرت لأجهزة السلطة في لبنان منذ عهد الإستقلال ولغاية بداية السبعينيات من القرن الماضي كفاءات وقدرات تضاهي مثيلاتها في الدول المتطورة. ولعل مقارنة بسيطة بين واقع ما قبل الأحداث وواقع ما بعدها خير معبر عن الحقيقة المُحْكى عنها.
    وإذا كان الوضع هو كذلك على الصعيد العام فكان لا بد لهذا الوضع أن ينعكس أيضاً على صعيد القطاع الخاص، وآية ذلك أن هذا القطاع عرف أيضاً تشاركاً في المصالح بين أبناء الشعب اللبناني من مختلف الطوائف سواء على صعيد الإنتاج أو الإستهلاك.
    ولكن لا بد من الإشارة إلى أن الإيجابيات المُحْكى عنها هنا ستبقى متحققة أيضاً بعد إلغاء الطائفية السياسية وذلك بعد تقارب المستوى العلمي والثقافي عند أبناء الطوائف المتعددة في لبنان.
    ولكن إذا كانت التركيبة المزدوجة للسلطة قد تركت تلك الآثار الإيجابية إلاّ أنها في نفس الوقت تركت آثاراً سلبية تفوقها أهمية.
    6 ـ الآثـار السـلبية للطائفية السياسية (13) لجهة الإخلال بالمساواة بين المواطنين: تُعْتبر النظرية القانونية للحقوق الشخصية والحريات العامة جزءاً جوهرياً من القانون العام وتتصل بمبادئها الأساسية بالقانون الدستوري.
 وتستوحي تلك الحقوق كامل قوتها من مبدءٍ يبدو كامناً في أصل النظرية وفلسفتها وهو مبدأ المساواة بين البشر على إختلاف عناصرهم وألوانهم وطبقاتهم ومذاهبهم، لأنه إذا تمعّنا بأي حق من الحقوق الشخصية لتبين لنا أن القاعدة التي تسوده والمنبع الذي يستوحي روحه منه يكمنان في فكرة المساواة والإحساس بها.
    وإذا كان مبدأ المساواة يجد تطبيقه الأول على الصعيد الإجتماعي إلاّ أنه يتضمن المساواة أيضاً أمام القانون بالمعنى الواسع، بحيث يشمل المساواة في الحقوق السياسية والحقوق المدنية على السواء وإن كانت المساواة تقتصر على المساواة بالأهلية القانونية دون المساواة بالإمكانية التي قد تختلف بين شخص وآخر.
 وقد تكرس مبدأ المساواة، منذ إعلان شرعة الإستقلال في الولايات المتحدة الأمير كية، وعلى الأخص بعد الثورة الفرنسية عام /1789/، في أكثر الدساتير العصرية وفي الشرعة العالمية لإعلان حقوق الإنسان، ولا نرى ضرورة لتعداد تلك الدساتير والشرع وإستعادة نصوصها (14). 
    وإنسجاماً مع الإتجاه المتقدم تضمن الدستور اللبناني منذ صدوره عام /1926/ نصاً صريحاً بهذا المعنى في المادّة /7/ منه ومؤداها: « كل اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم ».
    وقد أكدّت المقدمة التي أضيفت إلى الدستور بموجب القانون الدستوري رقم 18/90 الذي صدر تطبيقاً لوثيقة الوفاق الوطني، على مبدأ المساواة في البند « ج » منها حيث نصت على أن « لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية، تقوم على إحترام الحريات العامة، وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الإجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل ».
    ومقتضى مبدأ المساواة يفرض أن يتمتع جميع المواطنين بالأهلية القانونية لتولي مراكز السلطة العليا والوظائف العامة في الدولة.
    من هنا كان الأثر السلبي الأول للتركيب الطائفي للسلطة، وآية ذلك أن هذا التركيب جعل بعض مراكز السلطة حكراً على طائفة معينة وعطّل المبدأ الذي نص عليه البند « ج » من مقدمة الدستور والمادّة /7/ منه، وأفرغ هذا المبدأ من محتواه بالنسبة للمسألة موضوع البحث.
 ولعل أبلغ تصوير لتلك النتيجة هو ما كرره الرئيس سليم الحص في أكثر من مناسبة عندما قال: « ففي بلد الحريات الغزيرة سبع عشرة طائفة، واحدة منها فقط تؤهل أبناءها للوصول إلى سدة الرئاسة الأولى، وثلاث منها فقط تؤهل أبناءها للوصول إلى أي من الرئاسـات الثلاث الأولـى، وسبع منها فقط تؤهل أبناءها للوصـول إلى مقعد وزاري في أكبر الحكومات     حجماً ... »(15).
7 ـ الآثار السلبية للطائفية السياسية لجهة القبول بالسلطة: بالطبع إن توزيع مراكز السلطة على أساس طائفي لا بد أن يترك آثاراً سلبية على علاقة المواطن بالدولة وخصوصاً على مدى قبوله بالسلطة الحاكمة.
    فإذا كان القبول بالسلطة هو شرط من شروط إستمرارها، وهي لا تستمر بدونه إلاّ بالقوة العسكرية وحدها حتى إذا ما اضمحلت تلك القوة تعرضت السلطة ذاتها للإضمحلال، فإن الحقيقة المتقدمة كانت تتجلّى دوماً في لبنان إذ إن هناك فريقاً من اللبنانيين كان يرفض ضمناً تركيبة السلطة بقدر ما تخلّ بمبدأ المساواة، في حين كان فريق آخر يدافع عن تلك السلطة لأنها تعطيه كامل حقوقه وأكثر.
من هنا نلاحظ أنه في كل مرة تضعف فيها القوة العسكرية للدولة اللبنانية كان الشعور الضمني بالرفض يطفو على الوجه ويهدد السلطة حتى بالقوة المسلحة.
    وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة وصراحة نقول إن الشعور الضمني بعدم القبول بالسلطة كان كامناً عند الطوائف الإسلامية وليس عند الطوائف المسيحية خصوصاً قبل إتفاق الطائف وليس أدل على ذلك من أحداث عام /1958/ ومن بعدها الأحداث التي شهدها لبنان أوائل السبعينيات ولغاية أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.
كذلك إن مسار الحياة السياسية في لبنان بعد التعديل الدستوري الذي حصل عام /1990/ يشهد بأن الشعور الضمني بعدم القبول بالسلطة إنتقل من الطوائف الإسلامية إلى الطوائف المسيحية وبالأخص الطائفة المارونية، خصوصاً بسبب قانون الإنتخاب، وليس أدل على ذلك من البيان الذي صدر عن الإجتماع الذي عقده مجلس المطارنة الموارنة برئاسة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير بتاريخ 1/9/  2004  (16)، وفي البيانات العديدة التي صدرت قبله.
    وإذا عدنا إلى التاريخ نلاحظ أن اللبناني بطبعه كان معادياً للسلطة لأنه كان يشعر منذ أيام السلطنة العثمانية وأيام الإنتداب الفرنسي أن هذه السلطة لا تمثله وهي سلطة مفروضة عليه بالإكراه وليس برضاه (17).
    ويظهر أن السلطة التي قامت بعد عهد الإستقلال وتلك التي قامت بعد إقرار وثيقة الوفاق الوطني عام /1989/، لم تتمكّن من إقناع جميع أفراد المجتمع اللبناني بأن السلطة منبثقة من الشعب وتعمل لخدمته، من هنا يفترض بالسلطة أن تدرك دوماً هذه الحقيقة لتقنع المواطن اللبناني بأنها منبثقة من الشعب وحده.
8 ـ الآثار السلبية للطائفية السياسية لجهة الحدّ من الطموح الشخصي عند المواطن وبالأخص عند أصحاب القامات الكبيرة في الوطن: لا شك في أن جعل بعض مراكز السلطة حكراً على طائفة أو طوائف معينة من شأنه أن يحد من الطموح الشخصي عند أبناء الطوائف الأخرى وبالأخص عند أصحاب القامات الكبيرة التي لا يمكن أن تخلو منها أية طائفة.
وفي هذا السياق يمكن أن نذكر ما قاله رجل من أصحاب القامات الوطنية الكبيرة في لبنان في حقلي الإعلام والثقافة وهو الأستاذ غسان تويني مساء الخميس في 2/9/2004 على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال في برنامج كلام الناس الذي يقدمه الإعلامي الشهير الأستاذ مارسيل غانم، إذ قال ما مضمونه: أنا ما عندي طمـوح، أنا وصــلت إلى ما يمكن أن أصل إليه ( ويعني تولي الوزارة) منذ فترة طويلة.
وتبعاً لذلك أتساءل لو أن شخصاً مثل الأستاذ غسان تويني تولى أي  رئاسة من الرئاسات الثلاث الاولى ـ وهو من غير أبناء الطوائف الثلاث الكبرى في لبنان ـ فهل كان المواطن سيشعر بقدر أكبر أو أقل من القبول بالسلطة؟
وإذا كان لنا أن نضيف شيئاً لما ورد في مذكرة الرئيس سليم الحص إلى السادة الملوك والرؤساء العرب بتاريخ 12/1/1989 ( راجع البند 6) والى كلام الأستاذ غسان التويني، فنذهب أبعد من الرئاسات الثلاث والمقاعد الوزارية إلى المقاعد النيابية والوظائف العامة ونقول:
كيف يمكن أن يُحدّ من طموح مواطن في منطقة معينة من الترشّح إلى الانتخابات النيابية لمجرد أنه لم يُلحظ مقعد نيابي لطائفته ضمن الدائرة الانتخابية، مهما كانت كفاءاته وحتى لو كان يتمتع بتأييد شعبي كامل!
    كذلك على صعيد الوظائف العامة كانت هناك مراكز في الإدارة والقضاء مخصصة لطوائف معينة، وكان يمتنع على الموظفين والقضاة من الطوائف الأخرى أن يطمحوا الى تولي تلك المراكز مهما كانت درجة كفاءتهم ومسلكيتهم، وكم من مرؤوس أصبح رئيساً لرئيسه السابق نتيجة لهذا الوضع!
    وأكتفي هنا بمثال من السلطة القضائية فأقول: إن المراكز العليا الثلاثة في القضاء العدلي وهي رئاسة مجلس القضاء الأعلى والنيابة العامة التمييزية ورئاسة التفتيش القضائي كانت محصورة لغاية تاريخه بالطائفتين السنية والمارونية بحيث أن أي قاضٍ من الطوائف الأخرى، مهما بلغ علمه وخبرته ونزاهته، لا يمكن أن يتجاوز طموحه أكثر من تولّي مركز رئيس غرفة في محكمة التمييز!
    أكثر من ذلك لو سُئِل طلاب الجامعات عن طموحاتهم المستقبلية، فإن المهتمين منهم بالمجالات العلمية أو الفنية أو الأدبية سيكون طموحهم غير محدود، أمّا المهتمون منهم بالمجالات السياسية فإن طموحهم يبقى محدوداً بالمراكز المخصصة لطوائفهم في السلطة!
    هذه أمثلة ويمكن تكرار غيرها إلى ما لا نهاية
وإذا كان التعديل الدستوري الذي حصل بموجب القانون رقم 18/90 تطبيقاً لوثيقة الوفاق الوطني في الطائف أقر مبدأ عدم تخصيص أية وظيفة لأية طائفة، إلاّ أن الواقع العملي بعد الطائف يشهد بأن تمسك الطوائف بمراكز معينة لا يزال على أشدّه، حيث أن بعض مراكز الفئة الأولى لا يزال يشغلها أبناء الطائفة ذاتها منذ صدور القانون الدستوري رقم 18/90 ولغاية تاريخه، وكأن النص الدستوري المعدل أوجب إحتفاظ بعض الطوائف بمراكز معينة !!! ( راجع البند 3).
    9 ـ الآثار السلبية للطائفية السياسية لجهة حرمان الوطن من الإستفادة من رجال تاريخيين وطاقات بعض أبنائه المتفوقين: تمر في تاريخ الشعوب شخصيات تاريخية متفوقة وشخصيات تملك طاقات ذاتية فريدة في مجال السياسة أو العلم أو الفن يمكن أن توظف في خدمة أبناء الشعب بمجموعه.
    وإذا كان لنا أن نذكر هنا بعض الشخصيات السياسية في العالم فيكفي أن نذكر الجنرال ديغول (18) الذي لمع إسمه في فرنسا والعالم وأسّس الجمهورية الخامسة وتولىّ رئاستها، وبرز إسمه بين أهم القامات السياسية الكبيرة في القرن العشرين.
أسرد هذا المثال لأطرح فرضية وأخلص بنتيجتها إلى إبراز مساوئ الطائفية السياسية في لبنان.
أمّا الفرضية فهي التالية: لو كان النظام السياسي في فرنسا قائماً على أٍساس الطائفية السياسية وكان الجنرال ديغول من طائفة لا يجوز لأبنائها تولي رئاسة الجمهورية، فهل كانت فرنسا إستفادت من شخصية الجنرال ديغول الفذة أم كانت حرمت من ذلك؟ وهل كان المواطن الفرنسي خسر أم كسب بنتيجة ذلك؟
ونفس الفرضية يمكن طرحها في لبنان من خلال رئيس الجمهورية الراحل فؤاد شهاب. أن الرئيس فؤاد شهاب شرع في بناء الدولة من خلال المؤسسات التي أدخلت إصلاحات حقيقية على جميع الأصعدة وبالأخص الإدارية والمالية والتشـريعات الإجتماعية (19) .
 وبالفعل لقد تـم فـي عهـد الرئيـس فؤاد شهاب الذي إسـتمر من عام /1958/ إلى عام /1964/ إنشاء مصرف لبنان ( القانون المنفذ بموجب المرسوم رقم 13513 تاريخ 1/8/1963) وديوان المحاسبة ( مرسوم إشتراعي رقم 118 تاريخ 12/6/1959) (20)  ومجلس الخدمة المدنية ( مرسوم إشتراعي رقم 114 تاريخ 12/6/1959) والتفتيش المركزي   ( مرسوم إشتراعي رقم 115 تاريخ 12/6/1959).
    كما صدر في نفس الفترة قانون المحاسبة العمومية ( القانون المنفذ بالمرسوم رقم 14969 تاريخ 30/12/1963).
والفرضية التي أطرحها هنا هي التالية: لو لم يكن الرئيس شهاب من إحدى الطوائف التي يحق لأبنائها تولّي الرئاسة الأولى، فهل كان استفاد لبنان من إنجاراته ) (21)  ؟؟
أما النتيجة فهي تبيان الآثار السلبية للطائفية السياسية في لبنان، وآية ذلك أنه مر في لبنان وسيمر مستقبلاً رجالات ذوو شخصيات فذة متفوّقة يملكون رؤيا صائبة لمستقبل الوطن وشعبه، وكانت الطائفية السياسية تمنعهم من إفادة الوطن من طاقاتهم وقدراتهم ورؤيتهم، في حين أثبتت التجربة في العالم أن الإستفادة من مثل هؤلاء الأشخاص لا بد أن تنعكس إيجاباً على صعيد الوطن وعلى صعيد قبول الشعب بالسلطة القائمة وعلى صعيد رفاه الشعب ومستقبله
    وأذهب في الفرضيات إلى أبعد من السياسية لأقول لو أن الطائفية السياسية كانت مطبقة في مجال العلم والفن والأدب ألم يكن من الممكن أن يحرم لبنان من إرسال رسولة نحو النجوم مثل فيروز، أو من بلوغ مرتبة الروّاد في الأدب العالمي مع جبران خليل جبران، أو مرتبة كبار العلماء والمخترعين في العالم مع حسن كامل الصباح!
    وإذا كان وجه التشبيه يبدو للبعض غير مألوف بين السياسة والعلم والفن والأدب، فإن النظرة العميقة للأمور تظهر صحة التشبيه، لأن أصحاب القامات الكبيرة يمكن أن يبرزوا في أي حقل كان، ومن ثم لولا الطائفية السياسية لكان يمكن أن يكون برز في لبنان فيروز أو جبران أو صباح آخر في عالم السياسة
     ويشهد على ذلك أن بعض اللبنانيين الذين إكتسبوا جنسيات أجنبية وصلوا إلى أعلى المناصب السياسية، بما في ذلك تولّي الرئاسات الأولى في بعض البلدان، دون أن يمنعهم إنتماؤهم الطائفي من ذلك على خلاف الوضع القائم في بلدهم الأم! 
     10 ـ الآثار السلبية للطائفية السياسية لجهة الطابع المزدوج للقائمين بالسلطة ـ إنعكاس هذا الطابع على القرار الوطني: إنعكست الطائفية السياسية بشكل سلبي على القائمين بالسلطة، وآية ذلك أن تخصيص أحد المراكز لطائفة معينة كان يُفْضي إلى إزدواجية عند من يتولاه، فهو من جهة يدين لطائفته في جزء من وصوله إلى ذلك المركز، الامر الذي يجعله كممثل لها في السلطة وبالتالي المدافع عن حقوقها حيال بقية الطوائف.
ولكن المركز ذاته يطال، من جهة أخرى، جميع المواطنين بصرف النظر عن إنتماءاتهم الطائفية، وهذا يجعل المسؤول ذاته ممثلاً لجميع المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم وطوائفهم، وتبعاً لذلك يصبح القائم بأحد مراكز السلطة مضطراً لأن يجمع في شخصه صفتين: صفة ممثل الطائفة وصفة ممثل الوطن بجميع طوائفه.
ولو لم تكن مراكز السلطة موزعة على الطوائف لبدا الأمر طبيعياً في بلد تتعدد فيه الطوائف بإعتبار أن أجهزة السلطة يجب أن تنبثق من الشعب بجميع فئاته وطبقاته وطوائفه، إلاّ أن التوزيع الطائفي لمراكز السلطة كان يخلق مشكلة بين المسؤولين في كل مرة يحصل فيها تباين بين الطوائف بالنسبة لموضوع معين.
ونتيجة لذلك كان القائم بالسلطة يتصرف أحياناً من خلال العوامل الضاغطة في الواقع اللبناني وأهمها الطابع المزدوج في تركيب السلطة، فبحكم تخصيص مركز معين لطائفة من الطوائف كان لا بد لمن يتولى هذا المركز أن يحاول التوفيق بين عاملين:
العامل الأول ممارسة الحكم على أساس وطني شامل بصرف النظر عن إعتبارات الإنتماء إلى منطقة أو طائفة معينة، وكان يفترض أن ينبع القرار الوطني من هذا العامل وحده وهو الذي يخدم مصلحة الوطن العليا ويجمع بين مواقف المسؤولين في السلطة.
 والعامل الثاني الإنتماء إلى الطائفة التي خصص المركز لأبنائها مع ما يفرض ذلك على المسؤول من مراعاة تطلعات أبناء تلك الطائفة عندما يتباين الموقف بين الطوائف بشأن الموضوع الواحد.
    وإذا كان من شأن العامل الأول أن يقرب وحدة القرار الوطني بين القائمين بالسلطة عند مختلف الطوائف، فإن تلك الوحدة كثيراً ما كانت تنكسر على عتبة العامل الثاني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه الدراسة مأخوذة من كتاب د. حلمي الحجار، السطلة في الدستور اللبناني من الجمهورية الأولى إلى            الجمهورية الثالثة، ج1، المشاركة في السلطة، الطبعة الأولى بيروت 2004، ص 162/195
(2)  مراجعة المناقشات عند أنور الخطيب، في المجموعة الدستورية، دستور لبنان، المناقشات البرلمانية والوثائق، الطبعة الأولى 1970 ص 101 وما يليها.
(3)  إدمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى بيروت 1970 ص 501 وص 510.
(4) راجع عن توالي الحكومات وبياناتها الوزارية، البيانات الوزارية اللبنانية ومناقشاتها في مجلس النواب اللبناني، إعداد وتحقيق يوسف قزما خوري، مؤسسة الدراسات اللبنانية، الطبعة الأولى بيروت 1986، المجلد الأول من عام 1926 حتى العام 1966.
(5) راجع عن الميثاق الوطني، زهير شكر، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، دار بلال 2001 ص 257 وما يليها؛ سليمان تقي الدين، المسألة الطائفية في لبنان الجذور والتطور التاريخي، دار إبن خلدون ص 203 وما يليها

(6) راجع نص الكلمة عند يوسف كزما الخوري، مشاريع الإصلاح والتسوية في لبنان، مشار إليه سابقاً، ج 1 ص 117.
(7) إدمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري اللبناني، مشار إليه سابقاً ص 478.
(8)  راجع عن القوانين الدستورية في الجمهورية الثالثة.
Georges Burdeau, Droit constitutionnel et instiutions politique.13ème éd.  p. 304 et s; J.Jickel, Droit constitutionnel et instiutions politique.9ème éd p524.
                            
    Voir, J.Jickel, Droit constitutionnel et institutions politiques, 9ème éd. P. 465et s(9)
(10) وإذا لم نعط أمثلة هنا فالقصد من ذلك هو عدم الإساءة إلى أحد، ولكن تاريخ لبنان السياسي بين عام /1943/ وأواخر الستينيات مليء بالأمثلة ونترك للقارئ نفسه أن يتذكر بعضها.  

   
  (11)  التي إستمرت من أوائل السبعينيات إلى أواخر الثمانينيات من القرن الماضي.
(12) وقد أشـار الاســتاذ جوزف أبو خليل عضو المكتب السياسي الكتائبي في حديث بثته المؤسسة اللبنانية
       للإرسال في أواخر الثمانينيات أو بداية التسعينيات من القرن الماضي ( لا نذكر التاريخ بالضبط) إلى هذه
       الحقيقة ومعاناة حزب الكتائب من إختلاف التفكير بين جيل ما قبل الحرب وجيل ما بعد الحرب.
(13) وقد لخّص الشاعر نقولا فياض الآثارالسلبية بالقول:
وطني يهدمه الشـقاء، ولا أرى        كفّاً تُطيــح بمعْول الهـدّامِ
الطائفيـة قطعـت أوصالــه        وسياسـة الأحزاب والأرحامِ
لي في هوى وطني كتابُ خالـدُ        يبقى على المكتوب من أيامي
     سـجُلتُ نصـرانيتي في متنـه        ونشرتُ بين سطوره إسلامي 
(14) راجع حول هذا الموضوع، إدمون رباط، الوسيط في القانون الدستوري، مشار إليه سابقاً، ج 2 ص /201/ وما يليها ولا سيما ص /211/.
(15) من مذكرة الرئيس الحص إلى السادة الملوك والرؤساء العرب بمناسبة إجتماع مجلس جامعة الدول العربية
      على مستوى وزراء الخارجية بتاريخ 12/1/1989.
(16) راجع نص البيان في الصحف التي صدرت في اليوم التالي، وبالأخص جريدة النهار تاريخ 2/9/2004 ص 3.
 (17) وفي هذا السياق يمكن أن نتذكر بعض الأهازيج التي ما زال بعض أبناء المناطق يرددونها لغاية اليوم في حفلات الأعراس من مثل: « هدّوا السرايا وكسّروا أبوابها».
(18) هو الذي أنشأ بتاريخ 27/10/1940، وفي أحلك ظروف مرّت بها فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، مجلس الدفاع عن الإمبراطورية Le conseil de défense de l’empire وهو عبارة عن هيئة مؤقتة وجدت لتستمر في القيام بمهامها طالما ليس بالإمكان تشكيل حكومة فرنسية وتمثيل نظامي للشعب الفرنسي ومتحرر من العدو، وتلاحقت أعمال الجنرال ديغول إلى ان إنتهت بإنشاء « اللجنة الفرنسية للتحرير الوطني»  بتاريخ 3/6/1944 التي تحولت إبتداءً من عام /1944/ إلى حكومة إتخذت إسم حكومة الجمهورية المؤقتة وإنتقلت بعد ذلك من الجزائر إلى باريس بعد تحريرها؛ يراجع بالموضوع كتاب المؤلف، أسباب الطعن بطريق النقض، توزيع المؤسسة الحديثة لكتاب، الطبعة الأولى 2004 ج 1 بند /158/ وهو بعنوان « أمثلة عن تشريعات الأمر الواقع في فرنسا إبان الحرب».

V. Fouad Boutros, Écrits politiques, éd. DAR AN- Nahar, Beyrouth 1977, p. 31 et (19)  s.spécialement p.33.                                      
(20) وقد أُلْغي بموجب المرسوم الإشتراعي رقم 82 تاريخ 16/9/1983.
(21) بالطبع هناك مؤيدون ومعارضون لسياسة الرئيس فؤاد شهاب، ولكن لا يمكن لصاحب أي فكر موضوعي
      ومتجرد أن ينكر فضله في محاولة بناء دولة حديثة من خلال المؤسسات التي قامت في عهده.