الدكتور حلمي محمد الحجار04/08/1994 // جريدة السفير
بمناسبة انتخاب أول رئيس للمجلس الدستوري في لبنان
سلطة رقابة المحاكم المفقودة
1
1 ـ مبدأ تسلسل القواعد في قانون اصول المحاكمات المدنية: كانت المادة الثانية من قانون اصول المحاكمات المدنية اللبناني الصادر عام /1933/ تنص على ما يلي:
« لا يجوز للمحاكم النظر في صحة اعمال السلطة الاشتراعية، سواء اكان من جهة انطباق القوانين على الدستور او من جهة انطباق المعاهدات السياسية على قواعد القانون الدولي العام».
وذهب الاجتهاد في ظل النص المتقدم الى انه يمتنع على المحاكم مراقبة دستورية القوانين ولو عن طريق الدفع.
ثم صدر قانون اصول المحاكمات عام /1983/ واحل النص التالي محل النص السابق:
«على المحاكم ان تتقيد بمبدأ تسلسل القواعد، عند تعارض احكام المعاهدات الدولية مع احكام القانون العادي تتقدم في مجال التطبيق الاولى على الثانية». ثمّ «لا يجوز للمحاكم ان تعلن بطلان اعمال السلطة الاشتراعية لعدم انطباق القوانين العادية على الدستور او المعاهدات الدولية» (المادة 2 أ.م.م.).
ان النص المتقدم الذي تضمنه قانون اصول المحاكمات المدنية اللبناني الصادر عام 1983 يفرض على المحاكم ومن ثم يعطيها الحق ان تطبق القاعدة الاعلى مرتبة وتهمل القاعدة الادنى في كل مرة تجد ان هناك تعارضاً بين قاعدتين ترعيان المادة المتنازع عليها، وهذه الوجهة تتفق مع الرأي القائل ان المفاضلة بين القواعد وتطبيق القاعدة الاعلى يدخل في صلب الوظيفة القضائية، لان تطبيق القانون هو من صميم الوظيفة القضائية الامر الذي يفرض على القاضي ان يفصل النزاع على ضوء القواعد القانونية التي تنطبق موضوعياً على المادة المتنازع حولها، وطالما ان الامر هو كذلك اذا وجدت المحكمة ان هناك قاعدتين قانونيتين تنطبقان على المادة المتنازع حولها فيتحتم على المحكمة ان تطبق القاعدة الاعلى مرتبة وتهمل القاعدة الادنى، مثلاً اذا وجدت قاعدة يتضمنها نص تشريعي وقاعدة اخرى يتضمنها نص صادر بمرسوم تنظيمي وتتعارض مع القاعدة المستمدة من النص التشريعي فانه من صميم عمل المحاكم ان تفصل النزاع وفق القاعدة الاعلى مرتبة ومن ثم ان تهمل القاعدة الادنى مرتبة، وبالتالي ان المبدأ الذي تضمنته المادة /2/ من قانون اصول المحاكمات المدنية الصادر عام /1983/ والذي يفرض على المحاكم التقيد بمبدأ تسلسل القواعد يتوافق مع جوهر الوظيفة القضائية، وقد اعطت المادة /2/ مثالاً عن التعارض بين احكام المعاهدات الدولية وبين القانون العادي، فاوجبت على المحاكم تقديم القاعدة المستمدة من احكام المعاهدة الدولية في كل مرة تتعارض هذه القاعدة مع قاعدة مستمدة من احكام القانون العادي ومن ثم إهمال القاعدة الاخيرة، لانها ادنى مرتبة من الاولى، الا ان ما ورد في المادة /2/ حول هذا الموضوع هو فقط مجرد مثال بين قاعدتين متعارضتين تختلف مرتبتها في سلم القواعد القانونية، وهذا يعني انه كما يمكن ان يقع التعارض بين قاعدة مستمدة من احكام معاهدة دولية وقاعدة مستمدة من احكام القانون العادي فان التعارض يمكن ان يقع ايضاً بين قاعدة مستمدة من مرسوم وبين قاعدة مستمدة من مرسوم تنظيمي او بين قاعدة مستمدة من مرسوم وبين قاعدة مستمدة من قرار اداري، ففي كل مرة يوجد فيها تعارض بين قاعدتين على الشكل المتقدم يفرض مبدأ تسلسل القواعد تطبيق القاعدة الاعلى وإهمال القاعدة الادنى مرتبة، ولكن ماذا لو حصل التعارض بين احكام اي من القواعد القانونية وبين قاعدة مستمدة من النص الدستوري؟
2 ـ التعارض بين قاعدة مستمدة من النص الدستوري وبين قاعدة مستمدة من اي نص آخر – مبدأ تسلسل القواعد يعطي المحاكم حق الرقابة الدستورية عن طريق الدفع: اذا تعارضت قاعدة مستمدة من الدستور مع قاعدة مستمدة من اي نص آخر، فان الصيغة المطلقة التي وردت فيها المادة /2/ أ.م.م. تفرض على المحاكم تطبيق القاعدة المستمدة من النص الدستوري وإهمال القاعدة المستمدة من اي نص آخر، لان القاعدة المستمدة من النص الدستوري هي الاعلى مرتبة من كل القواعد المستمدة من النصوص الاخرى، ويقتصر عمل المحكمة فقط على تطبيق القاعدة الدستورية دون التعرض لصحة او عدم صحة القاعدة الاخرى عملاً بنص الفقرة الاخيرة من المادة /2/ أ.م.م.، ومؤداها انه «لا يجوز للمحاكم ان تعلن إبطال اعمال السلطة الاشتراعية لعدم انطباق القوانين العادية على الدستور او المعاهدات الدولية».
ولكن البحث والمفاضلة بين القاعدة المستمدة من النص الدستوري وبين القاعدة المستمدة من اي نص آخر يفترض ضمناً وحتماً تقويم القاعدة الآخيرة ومدى انطباقها على القاعدة الاولى المستمدة من النص الدستوري، مثلاً اذا وجدت قاعدة مستمدة من نص تشريعي متعارضة مع قاعدة مستمدة من نص الدستور فان المفاضلة بين القاعدتين تعني حتماً مراقبة دستورية القاعدة القانونية لانه عندما تجد المحكمة ان القاعدة القانونية متوافقة مع القاعدة الدستورية فستطبقها في حين انها اذا وجدت ان القاعدة القانونية متعارضة مع القاعدة الدستورية فستهملها وتطبق القاعدة الاخيرة، وهذا يعني ان المحكمة اقرت في الافتراض الاول بدستورية القاعدة القانونية وفي الافتراض الثاني بعدم دستوريتها وبمعنى آخر ان المحكمة راقبت دستورية القاعدة القانونية وإن كانت نتائج هذه الرقابة اقتصرت فقط على عدم تطبيق القاعدة القانونية المخالفة للدستور ولم تصل الى حد إبطالها. وهذا وجه من اوجه الرقابة الدستورية معروف بالرقابة عن طريق الدفع، وقد ذهبنا فور صدور قانون اصول المحاكمات المدنية عام 1983 بان المادة الثانية اعطت المحاكم اللبنانية حق الرقابة على دستورية القوانين عن طرق الدفع فقط.
ولكن ماذا حل بمبدأ تسلسل القواعد ونتيجته العملية، المتمثلة باعطاء المحاكم حق الرقابة الدستورية على القوانين عن طريق الدفع، بعد صدور قانون انشاء المجلس الدستوري عام 1993؟
3 ـ انشاء المجلس الدستوري عام 1993: تطبيقاً لوثيقة الوفاق الوطني التي اقرها النواب في الطائف في تشرين الاول من عام /1989/ صدر في لبنان القانون الدستوري رقم /18/ تاريخ 21/9/1990 واقر مبدأ الرقابة الدستورية على القوانين عن طريق الدعوى الاصلية التي تصل الى حد إبطال النص القانوني المخالف للدستور، وبالفعل ان التعديل طال المادة /19/ من الدستور فأصبح نصها على الشكل التالي:
«ينشأ مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين... يعود حق مراجعنه في ما يتعلق بمرلقبة دستورية القوانين للجهات الآتية:
رئيس الجمهورية – رشيس مجلس النواب – رئيس مجلس الوزراء – عشرة من اعضاء مجلس النواب – رؤساء الطوائف المعترف بها قانونياً في ما يتعلق حصراً بالاحوال الشخصية وحرية المعتقد وحرية الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني.
تحدد قواعد تنظيم المجلس واصول العمل فيه وكيفية تشكيله بموجب قانون»
واستناداً الى النص الدستوري المتقدم صدر قانون انشاء المجلس الدستوري رقم /250/ بتاريخ 14/7/1993، واناطت المادة الاولى منه بهذا المجلس:
«مراقبة دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية (المواد /23/ الى /33/).
ومع اعطاء هذا المجلس حق الرقابة الدستورية على القوانين نزع القانون رقم 250/93 عن المحاكم سلطة الرقابة الدستورية بصورة غير مباشرة على القوانين.
4 ـ قانون انشاء المجلس الدستوري نزع عن المحاكم سلطة الرقابة غير المباشرة على دستورية القوانين عن طريق الدفع عملاً بمبدأ تسلسل القواعد: بعد ان أوْلت المادة الاولى المجلس الدستوري مهمة مراقبة دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون (راجع البند السابق) انصب الفصل الثالث من القانون على وضع معالم هذا الرقابة وحدودها ومفاعيلها. فعادت الفقرة الاولى من المادة /18/ ونصت على ما يلي:
«يتولى المجلس الدستوري الرقابة على دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون» وبذلك يكون لبنان قد انضم من حيث المبدأ الى فئة الدول التي تقر الرقابة الدستورية على القوانين بصورة مباشرة عن طريق هيئة قضائية خاصة منشأة خصيصاً لهذا الغرض.
ولكن مع اقرار المبدأ المتقدم خطا قانون انشاء المجلس الدستوري خطوة الى الوراء بنزعه عن المحاكم سلطة الرقابة الدستورية بصورة غير مباشرة، والتي كانت اعطتها اياها المادة /2/ من قانون اصول المحاكمات المدنية الصادر عام /1983/، وبالفعل فان المادة /18/ من قانون انشاء المجلس الدستوري، وبعد ان اعطت – في الفقرة الاولى منها – المجلس الدستوري حق الرقابة على دستورية القوانين، عادت واضافت في الفقرة الثانية منها انه «خلافاً لاي نص مغاير، لا يجوز لاي مرجع قضائي ان يقوم بهذه الرقابة مباشرة عن طريق الطعن او بصورة غير مباشرة عن طريق الدفع بمخالفة الدستور او مخالفة مبدأ تسلسل القواعد والنصوص» كذلك نصت المادة /33/ من القانون ذاته انه «تلغى جميع النصوص المخالفة لاحكام هذا القانون او التي يتعارض مضمونها مع احكامه».
وبذلك يكون المبدأ القائل بان «على المحاكم ان تتقيد بمبدأ تسلسل القواعد» المنصوص عنه في المادة /2/ من قانون اصول المحاكمات المدنية لعام /1983/ قد تعدل جزئياً بان استثني منه التعارض بين قاعدة مستمدة من نص الدستور واية قاعدة قانونية اخرى اذ في هذه الحالة لا يجوز للمحاكم ان تحترم القاعدة الدستورية وتطبيقها على حساب إهمال القاعدة القانونية بل يتوجب عليها تطبيق القاعدة القانونية ولو بدت لها متعارضة مع قاعدة مستمدة من الدستور! أمّا بقية اوجه تطبيق مبدأ تسلسل القواعد فتبقى على حالها كما وردت في المادة /2/ من قانون اصول المحاكمات المدنية بمعنى انه عند التعارض بين قاعدة مستمدة من احكام معاهدة دولية وقاعدة مستمدة من احكام قانوني عادي او مرسوم تنظيمي او عند التعارض بين احكام قانون عادي مرسوم تنظيمي او عند التعارض بين قاعدة مستمدة من مرسوم وبين قاعدة مستمدة من قرار اداري، يبقى للمحاكم في الحالات المتقدمة ويتوجب عليها ان تحترم مبدأ تسلسل القواعد وتطبق القاعدة الاعلى مرتبة وتهمل القاعدة الادنى.
ولكن هل ان اقرار مبدأ الرقابة الدستورية على القوانين ونزع سلطة المحاكم في الرقابة عن طريق الدفع، كما ورد في قانون انشاء المجلس الدستوري، يحقق على وجه افضل الغاية المتوخاة اصلاً من مبدأ الرقابة الدستورية على القوانين، وفقاً لما قصده التعديل الدستوري الصادر بالقانون رقم 18/90 تطبيقاً لوثيقة الوفاق الوطني التي اقرها النواب في الطائف عام 1989؟
بمناسبة انتخاب أول رئيس للمجلس الدستوري في لبنان
سلطة رقابة المحاكم المفقودة
-2- 5 ـ تقويم حصر الرقابة الدستورية بالمجلس الدستوري ونزعها عن المحاكم: اذا كان التعديل الدستوري الصادر في لبنان عام 1990 اقر مبدأ الرقابة الدستورية على القوانين فان قانون انشاء المجلس الدستوري الصادر بالقانون رقم 250/93 قد حدّ من فعالية هذه الرقابة في الاوجه التالية:
ـ نزع عن المحاكم سلطة الرقابة غير المباشرة عن طريق الدفع تطبيقاً لمبدأ تسلسل القواعد.
ـ قيد مراجعة المجلس الدستوري للطعن بعدم دستورية القوانين بمهلة معينة حددها في الفقرة الثالثة من المادة /19/ منه التي نصت على ما يلي:
«تقدم المراجعة من قبل المرجع المختص الى رئاسة المجلس الدستوري خلال مهلة خمسة عشر يوماً تلي نشر القانون في الجريدة الرسمية او في احدى وسائل النشر الاخرى المعتمدة قانوناً، تحت طائلة رد المراجعة شكلاً».
ـ اعتبر ان عدم بت المجلس الدستوري بالمراجعة خلال المهلة المعينة في القانون بمثابة موافقة ضمنية على دستورية القانون موضوع المراجعة، وبالفعل نصت المادة /20/ من القانون على ما يلي:
«فور تسجيل المراجعة في قلم المجلس، يقوم الرئيس بتبليغ نسخة عن المراجعة الى اعضاء المجلس ويعين مقرراً من الاعضاء. على المقرر ان يضع تقريره ويقدمه الى المجلس خلال مهلة اقصاها عشرة ايام من تاريخ ابلاغه قرار تعيينه»، واضافت المادة /21/ «فور جهوز تقرير العضو المقرر يلتئم المجلس الدستوري في مقره ويتذاكر في القضية ويصدر قراره بشأنها خلال مهلة خمسة عشر يوماً وذلك في جلسة يعقدها في مقره.
اذا لم يصدر القرار ضمن المهلة المذكورة، يعتبر النص موضوع المراجعة مقبولاً».
وأساساً ان النص الجديد للمادة /19/ من الدستور حصر حق مراجعة المجلس الدستوري بجهات رسمية حددها وبرؤساء الطوائف فيما يتعلق بقوانين الاحوال الشخصية، أما الافراد العاديون والنقابات وبقيمة الاشخاص المعنويين فلا يجوز لهم مراجعة المجلس الدستوري.
ـ ولكن الواقع ان مخالفة قاعدة قانونية معينة للنص الدستوري يظهر اكثر ما يظهر عند التطبيق. بمعنى انه يمكن ان يصدر قانون معين ولا يتنبه احد لاحتوائه على احكام مخالفة للدستور، الا انه بعد نشر القانون وخلال تطبيقه على حالات معينة، قد تكون احياناً مستجدة لاحقاً بعد نشر القانون، يمكن ان يظهر ان قاعدة معينة تضمنها القانون مخالفة للدستور وتضر بفئة من الاشخاص وعندها لا يعود بامكان احد ان يطعن بعدم دستورية القانون حتى الاشخاص الذين عددتهم المادة /19/ الجديدة من الدستور، وهذا يعني انه سيتكرس نص قانوني مخالف للدستور وتكون المحاكم ملزمة بتطبيقه لانه من غير الجائز ان تهمله وتطبق النص الدستوري تطبيقاً لمبدأ تسلسل القواعد. أكثر من ذلك ان جميع النصوص القانونية الصادرة قبل انشاء المجلس الدستوري والتي صدرت قبل تاليفه لا يمكن ان تخضع لاية مراجعة حتى من الاشخاص المحددين في المادة /19/ الجديدة من الدستور طالما ان المراجعة يجب ان تقدم خلال /15/ يوماً تلي نشر القانون.
وبكل الاحوال ان الهدف من الرقابة الدستورية هو المحافظة على مبدأ سمو الدستور وإبقاء التشريع متوافقاً مع النص الدستوري، فاذا لم يطعن احد من الجهات المعينة في المادة /19/ بنص قانوني مخالف للدستور او اذا انقضت المهلة دون تقديم المراجعة فمعنى ذلك تكريس وضعية قانونية مخالفة للدستور، في حين ان سلطة المحاكم بالرقابة الدستورية على القوانين ولو عن طريق الدفع كان من شانها، لو لم تلغ بالقانون رقم 250/93، ان تحول دون المحاذير المحكى عنها.