الدكتور حلمي محمد الحجار08/12/2005 // جريدة السفير
1 ـ تمهيد: في اليوم التالي لحصول جريمة التفجير النكراء، التي أودت بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه الأبرار في لبنان، أصدر رئيس مجلس الأمن الدولي بتاريخ 15/2/2005 بياناً باسم المجلس يطلب فيه من الأمين العام للأمم المتحدة متابعة الوضع في لبنان ورفع تقرير طارئ إلى المجلس عن ملابسات العمل الإرهابي المتمثل باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونتائج هذا العمل، وتبعاً لذلك أعلن الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 18/2/2005 إرسال لجنة تقصي الحقائق إلى بيروت بغية جمع المعلومات التي يحتاج إليها لرفع تقريره إلى مجلس الأمن.
وبعد تقديم لجنة تقصي الحقائق تقريرها أصدر مجلس الأمن القرار رقم /1595/ الذي أنشأ لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس للتحقيق في الجريمة، وبعد ان قدم ميليس تقريره الأول أصدر مجلس الأمن القرار /1636/ الذي يتضمن مطالبة سوريا بالتعاون مع لجنة التحقيق الدولية.
وتعاون الدولة السورية مع لجنة التحقيق الدولية تثير مشكلة قانونية هامة تدور حول التنازع بين الشرعية الدولية والشرعية الوطنية داخل الدولة، بمعنى أنه هل يحق لأية دولة أن تتذرع بالسيادة الوطنية وبقوانينها الداخلية حتى تتملص من الموجبات التي تفرضها عليها الشرعية الدولية؟
لقد ظهرت في الإجابة على السؤال المتقدم نظريتان، الأولى تُعْطي الأفضلية للقانون الداخلي، بينما الثانية تُعْطي الأفضلية للشرعية الدولية (1).
2 ـ النظريّة التي تُعْطي الأفضلية للشرعية الداخلية: تعتبر هذه النظريّة أن القانون الدولي هو نظام قانوني كبقية الأنظمة القانونيّة وبالتالي ليس له أيّة قيمة بالنسبة للدول إلاّ بقدر ما تعترف به تلك الدول، أيّ بقدر ما تتبنّاه السلطة القائمة داخل الدولة بموجب الدستور؛ ومن ثمّ تُعْطي هذه النظريّة الأفضلية للنظام القانوني الداخلي وتجعل شرعيّة القانون الدولي داخل الدولة مستمدة من نصّ صادر عن هذه الدولة بالذات.
وتبعاً لذلك يعتبر أنصار هذه النظريّة أن الشرعية الدولية لا تعتبر بذاتها مصدراً للقانون الداخلي وإنما تكتسب هذه الصفة بنتيجة العمل القانوني الوطني داخل الدولة الذي يحوّلها إلى شرعية داخلية، وبهذا تصبح القواعد القانونية المستمدة من الشرعية الدولية كالمعاهدات الدولية تشريعاً مثل سائر التشريعات الداخلية.
وبناءً على ذلك إذا كان هناك تعارض بين أحكام المعاهدة الدوليّة وأحكام التشريع الداخلي فعندها تطبّق القواعد العامّة لحلّ لهذا التعارض أيّ يفضل التشريع اللاحق على التشريع السابق، وقد دافع عن هذه النظريّة المدّعي العام لدى المحكمة العليا في فرنسا الأستاذ Matter (2).
ولكن لا يذهب أنصار هذه النظريّة إلى حدّ تفضيل القانون الداخلي اللاحق على أحكام المعاهدة الدوليّة إلاّ إذا وُجِد نصّ صريح في هذا القانون يفيد ذلك لأنه يفترض ضِمْناً وبالضرورة أن كلّ قانونٍ جديدٍ يحافظ على تطبيق المعاهدات الدوليّة، إذْ يفترض بالمشترع الذي يريد التنصّل من إلتزاماته الدوليّة أن يعبّر عن إرادته بذلك صراحة.
وقد ورد في بعض القرارات القديمة نسبيّاً والصادرة عن محكمة النقض الفرنسية أن تعبير المشترع عن إرادته يكون كافياً عندما ينشئ حقاً جديداً لمصلحة الفرنسيين ويعلن في نفس الوقت أن هذا الحقّ لا يُمنح للأجنبي إلاّ إذا كان الفرنسي يستفيد في بلد هذا الأجنبي من نفس الحقّ (3).
وقد إعتبر البعض أن القانون المصري يأخذ بالنظريّة المتقدّمة إستناداً للمادّة /151/ من دستور مصر الصادر عام 1971، ومؤدّاها أن » رئيس الجمهورية يبرم المعاهدات ويبلغها مجلس الشعب مشفوعة بما يناسب من البيان. وتكون لها قوّة القانون بعد إبرامها والتصديق عليها ونشرها وفقاً للأوضاع المقرّرة (4) «.
ولكن هل يمكن إلغاء القاعدة المنبثقة عن المعاهدة من جانب طرفٍ واحدٍ؟ هذا ما لا ترضى به النظريّة الثانية.
3 ـ النظريّة التي تُعْطي الأفضلية للقواعد المستمدّة من الشرعية الدولية: يعتبر أنصار هذه النظريّة أن القانون الدولي هو نظام قانوني أعلى من كلّ الأنظمة القانونيّة الداخليّة، ومن ثمّ يجب أن يُعْطى الأفضلية على النظام القانوني الداخلي، لأن شرعيّة النظام القانوني داخل كلّ دولة تستند لقاعدةٍ من قواعد القانون الدولي ومفادها:
إن الحكومة التي تمارس سيطرة فعليّة ومستقلّة عن أيّة حكومة أخرى على سكان منطقة معيّنة تشكّل الحكومة الشرعيّة في هذه المنطقة، وإن الشعب الذي يعيش في هذه المنطقة تحت سلطة تلك الحكومة يشكّل دولة بمفهوم القانون الدولي العام.
ومن ثمّ فإن القاعدة المتقدّمة هي التي تخول فرداّ معيّناً أو مجموعة من الأفراد ممارسة السلطة داخل الدولة، وتالياً وضع وتنفيذ وتطبيق القواعد القانونيّة الداخليّة.
وينتج عن التحليل السابق أن شرعيّة النظام القانوني الداخلي إنّما تستند لقاعدة من قواعد القانون الدولي العام، الأمر الذي يترتّب عليه بالضرورة سموّ قواعد هذا القانون الأخير بالنسبة لقواعد القانون الداخلي.
ويتضمّن القانون الدولي العام قاعدة عرفيّة تُعْطي الدولة سلطة تنظيم العلاقات مع الدول الأخرى بموجب معاهدات، وهذه القاعدة العرفيّة هي التي تشكّل أساس شرعيّة القواعد المستمدة من المعاهدات داخل كلّ دولة والمعبّر عنها بالقاعدة المعروفة في القانون الدولي العام » pacta sunt servanda «، ونتيجة لما تقدّم تكون القواعد القانونيّة المستمدّة من الشرعية الدولية أعلى مرتبة من القواعد القانونيّة الداخليّة (5).
والواقع أن هذه الوجهة تبدو متوافقة مع الأهداف التي حدّدتها الأمم المتّحدة في ميثاقها بتفضيلها الشرعيّة الدوليّة على الشرعيّة الداخليّة إذْ جاء في ديباجة الميثاق الصادر بتاريخ 26/7/1945 ما حرفيته: نحن شعوب الأمم المتّحدة، وقد آلينا على أنفسنا ... » أن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلّها تحقيق العدالة وإحترام الإلتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي «.
كما جاء في المادّة /103/ من نفس الميثاق ما يلي: » إذا تعارضت الإلتزامات التي يرتبط بها أعضاء » الأمم المتّحدة « وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أيّ إلتزام دولي آخر يرتبطون به فالعبرة بإلتزاماتهم المترتّبة على هذا الميثاق «.
كما أن المادّة /38/ من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدوليّة، التي عدّدت المصادر التي ترجع إليها هذه المحكمة عند فصل المنازعات التي تُرْفع إليها، ذكرت في طليعة هذه المصادر » الإتّفاقات الدوليّة العامّة والخاصة التي تضع قواعد معترفاً بها صراحة من جانب الدول المتنازع«.
وهذه المبادئ وجدت لها صدى على الصعيد الدولي إذْ إنعقد مؤتمر في فيينا حضره ممثلو مئة وثماني دول بينها لبنان، في دورتين الأولى في إذار من عام /1968/ والثانية بين 9/4 و 23/5 من عـام /1969/، حيث إنبثقت عن هذا المؤتمر » إتّفاقيّة فيينا حول المعاهدات (6)«.
وقد نصّت المادّة /26/ من هذه الإتّفاقيّة التي وردت تحت عنوان(pacta sunt servanda) على ما يلي: » كلّ معاهدة نافذة تلزم أطرافها ويجب أن تنفّذ وفقاً لحسن النيّة « وأضافت المادّة /27/: » لا يمكن لأيّ طرف أن يتذرّع بقوانينه الداخليّة لتبرير عدم تنفيذ معاهدة دوليّة «. وقد كرّس هذا النصّ مبدأ ترجيح المعاهدات الدوليّة والشرعية الدولية بشكل عام على القوانين الداخليّة.
كما أن هذه النظريّة كانت مكرّسة في بعض الدساتير التي تضمّنت نصوصاً صريحة بترجيح المعاهدات على أحكام القوانين الداخليّة عند التعارض بين الاثنين، كالمادتين /26/ و /27/ من دستور الجمهورية الرابعة في فرنسا، والمادّة /55/ من دستور الجمهورية الخامسة والمادّة السادسة فقرتها الثانية من دستور الولايات المتّحدة التي نصّت على ما يلي: » أن هذا الدستور وكذلك قوانين الولايات المتّحدة الصادرة بموجبه وكذلك المعاهدات المعقودة أو التي ستعقدها الولايات المتّحدة ستكون القانون الأعلى للبلد وسيكون قضاة كلّ دولة مقيّدين بها بالرغم من كلّ نصّ مخالف في دستور أو قوانين إحدى الدول (7) «.
4ـ تكريس سموّ الشرعية الدولية في القانون الوضعي اللبناني: كان إجتهاد محكمة النقض اللبنانية، في ظل القانون القديم، يقول بتفضيل أحكام المعاهدة الدوليّة على القانون الداخلي (8) وهذا الحلّ يمكن الأخذ به دون أيّة صعوبة إذا كانت المعاهدة الدوليّة لاحقة للقانون الداخلي، إذْ يفترض ضِمْناً عندئذٍ أن أحكام المعاهدة ألغت أحكام القانون الداخلي عملاً بالقاعدة العامّة أن النصّ الجديد يلغي النصّ القديم (9).
ولكن هل تبقى أحكام المعاهدة الدوليّة مفضّلة على القانون الداخلي حتى ولو كان القانون الداخلي لاحقاً في صدوره والعمل به لأحكام المعاهدة الدوليّة؟
أجابت محكمة النقض اللبنانية على السؤال المتقدّم، في ظل قانون أصول المحاكمات المدنية القديم، بتفضيلها أحكام المعاهدة الدوليّة على القانون الداخلي إذْ قالت صراحة:
» إذا تعارضت أحكام معاهدة ما مع أحكام قانونٍ داخلي فإن أحكام المعاهدة وحدها تكون هي الواجبة التطبيق سواء أكان القانون الداخلي قد صدر قبل إبرام المعاهدة أو بعد إبرامها (10) «.
وقد علّلت المحكمة العليا رأيها بالقول » أن المعاهدة هي رابطة تعاقدية بين دولتين لا تتأثّر بما يكون في الدولتين من تشريعات سابقة عليها أو بما تصدره إحداها من تشريعات لاحقة تعارض أحكامها إلاّ إذا كان ثمة نصّ في القانون الداخلي على إلغاء المعاهدة «.
وقد كرّس قانون أصول المحاكمات المدنيّة اللبناني الحالي الصادر عام /1983/ الوجهة القائلة أن المعاهدات الدوليّة تأتي في مرتبة أعلى من القانون الداخلي، وبالفعل نصّت المادّة الثانية من القانون على ما يلي:
» على المحاكم أن تتقيّد بمبدأ تسلسل القواعد.
عند تعارض أحكام المعاهدات الدوليّة مع أحكام القانون العادي، تتقدّم في مجال التطبيق الأولى على الثانية.
لا يجوز للمحاكم أن تعلن بطلان أعمال السلطة الإشتراعية لعدم إنطباق القوانين العاديّة على الدستور أو المعاهدات الدوليّة « (11).
وهذا يعني ان القانون اللبناني الداخلي يتضمن نصاً صريحاً بوضع القواعد القانونية المستمدة من الشرعية الدولية في مرتبة أعلى من القواعد القانونية المستمدة من الشرعية الداخلية.
وهذا الحلّ المعتمد تشريعياً في القانون اللبناني يمكن تأييده لأن النظام القانوني الدولي لا يمكن أن يتوطّد إلاّ إذا طبّقت الدول المعاهدات والإتّفاقات التي أبرمتها بكل صدق وأمانة وأعطتها الأولوية في التطبيق عند تعارضها مع القانون الداخلي.
ومن ثمّ إذا وُقّع بروتوكول بين الدولة اللبنانية ودولة أجنبيّة ثمّ أُبْرم ونُشر وفقاً للأصول فيكون له ذات المفاعيل التي تترتّب على أيّة معاهدة دوليّة، وعندئذٍ تسمو نصوصه على نصوص القانون الداخلي حتى لو كانت نصوص القانون الداخلي جاءت بصيغة آمرة لأن من واجب الدولة إحترام إلتزاماتها الدوليّة ولا يمكنها بالتالي خرق أحكام المعاهدة بإرادتها المنفردة حتى ولو تعلّق الأمر بالنظام العام الداخلي (12).
وهذا يعني ان القواعد القانونية المستمدة من أحكام البروتوكول الموقع بين الدولة اللبنانية ولجنة التحقيق الدولية تسمو على كل القواعد القانونية الداخلية في لبنان.
5 ـ مشكلة التعاون بين الدولة السورية ولجنة التحقيق الدولية لا تحل إلا بتفضيل قواعد الشرعية الدولية على أي تشريع وطني داخل الدولة السورية ـ نتائج ذلك على صعيد المحاكمة: إن المشكلة التي طرحت بين الدولة السورية وبين لجنة التحقيق الدولية حول ضرورة تعاون الدولة السورية مع لجنة التحقيق الدولية لا يمكن أن تحل إلا على ضوء تفضيل قواعد الشرعية الدولية على أي تشريع وطني داخل الدولة السورية، وقد جاء قرار مجلس الأمن الأخير رقم /1636/ يؤكد على ذلك، كما أن الموقف الأخير للدولة السورية بإعلان استعدادها للتعاون مع لجنة التحقيق الدولية هو تأكيد لسمو القواعد القانونية المستمدة من الشرعية الدولية على أية قواعد قانونية وطنية صادرة داخل الدولة.
ومن ثم فان أي قرار يصدر عن الشرعية الدولية، بموضوع محاكمة الفاعلين والمشتركين والمحرضين والمتدخلين في الجريمة النكراء التي أودت بحياة الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه الأبرارـ كما لو قرر مجلس الأمن إنشاء محكمة خاصة للغرض المتقدم ـ، لا بد أن يلقي رضوخاً وانصياعاً من جميع الدولة المعنية بالموضوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) يراجع بالموضوع:P.289 et S. Hans Krlsen, Théorie pure du droit
(2)Concl. Sous civ. 22 déc. 1931, S, 1932, 261 et. S, spécialement P. 266.
(3) يراجع:Jaques Boré et Louis Boré, la Cassation en matière civile, Dalloz Action, 2003/2004 P 235. N˚ 61.92.
(4) نبيل إسماعيل عمر رقم 63 ص133 وبخلاف ذلك، أحمد جلال الدين هلالي رقم 163 ص149.
(5) يراجع: Hans Kelsen théorie pure du droit p. 289/293
(6) « la convention de vienne sur les droits des traités »
(7) يراجع إدمون رباط ج1 ص451 بند 362 (مشار إليه سابقاً)، إلاّ أنه تجدر الإشارة إلى أن هذا النصّ يعطي الأفضلية للمعاهدات الدوليّة التي تعقدها الدولة الاتحادية بموجب الدستور الاتحادي على الدساتير والقوانين المحليّة، إلاّ أنها لا تبيّن المفاضلة بين المعاهدات وبين الدستور والقوانين الاتحادية.
(8) تمييز أولى رقم 130 تاريخ 3/12/1969، النشرة 1970 ص654(حلّ ضمني)
(9) بشأن تفضيل المعاهدة القضائيّة المعقودة بين لبنان والأردن المصدقة بموجب قانون 6/4/1954 وتفضيلها على أحكام القرار رقم 1113 تاريخ 19/11/1921 المتعلّق بالصيغة التنفيذيّة، يراجع تمييز أولى هيئة ثانية رقم 73/81 تاريخ 10/5/1968 العدل 69 ص 494.
Comp. Cass. Crim. 22 oct. 1970 D. 1971, 221 note Rideau; 7 janv. 1972, D. 1972, 472 note rideau, J.C.P. 1972, II, 17158, note Guérin; Civ. 10 févr. 1948 J.C.P. 1948, II, 4255, note Benoit; 15 déc. 1975 Gaz. Pal. 1976, 1, 141.
(10) غرفة أولى رقم 59 تاريخ 9/12/1973 العدل 1974 ص277.
(11) يراجع بالموضوع، حلمي الحجار، أسباب الطعن بطريق النقض، طبعة أولى 2004، الجزء الأول البند 144.
(12) تمييز رابعة رقم 1 تاريخ 25/1/94، النشرة 1994 ص41، والقضيّة الصادر فيها هذا القرار تتعلّق بتعارض بين البروتوكول اللبناني التشيكي المؤرخ في 11/4/1957 وبين القاعدة التي تضمنها المرسوم الإشتراعي رقم 34/67 والتي تُعْطي المحاكم اللبنانية الإختصاص لمحاكم المحلّ الذي يمارس فيه الممثل التجاري نشاطه بالرغم من كلّ إتّفاق مخالف.