الدكتور حلمي محمد الحجار10/12/2007 // جريدة النهار
ملاحظات حول وجوب استقالة كبار الموظفين قبل انقضاء سنتين
من انتهاء ولاية الرئيس
كانت نشرت في جريدة النهار صفحة المنبر، يوم الجمعة الواقع فيه 30/11/2007، دراسة وضعناها بشكل ملاحظات قانونية حول انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وقد وردتنا في ذات اليوم اتصالات عديدة من بينها اسئلة وردت من بعض المعنيين بالانتخابات الرئاسية. وقد تمحورت تلك الاسئلة حول رأينا بالمنع الوارد في المادة /49/ من الدستور على كبار الموظفين من الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية وما اذا كانت الاستقالة قبل سنتين تبقى واجبة بعد ان اضحى موعد الانتخابات الرئاسية غير محدد على وجه الدقة. وردّاً على تلك التساؤلات نضيف ما يلي الى ما كتبناه في الدراسة السابقة.
ان التعديل الدستوري الصادر عام /1990/ أضاف إلى المادّة /49/ النص التالي:« لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة .. مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم ...»
وهذا المنع لا مثيل له في دستور الجمهورية الثالثة المأخوذ عنه الدستور اللبناني، وبالفعل أن الدستور الفرنسي لم يكن يفرض أي شرط أو أي منع من أجل انتخاب رئيس الجمهورية، وكان مألوفاً انتخاب الرئيس من كبار الشخصيات المعروفة في فرنسا
Il n'existe aucune condition d'éligibilité spéciale pour la présidence de la République; il suffit d'être électeur. En fait. Furent toujours élus des hommes exerçant de hautes fonctions politiques(1)
ومن ثم فإن المادّة /49/ من الدستور اللبناني، بصيغتها الأصلية، لم تكن تمنع انتخاب موظفي الفئة الأولى ومن يماثلهم لرئاسة الجمهورية، وبقي الوضع كذلك الى العام 1990 حيث تقرر المنع لأسباب مرتبطة بالأزمة السياسية التي نجمت عن وجود حكومة العماد ميشال عون (2).
وبالتالـي ان إضافة تلك الفقرة إلى المادّة /49/ لم يكن مسنداً إلى أي سند قانوني، بل بالعكس أن المبادئ الدستورية والقانونية العامة تأبى تكريس مثل ذلك النص لانه يخالف مبدأ المساواة بين المواطنين المكرس في المادّة /7/ من الدستور اللبناني وفي الشرع العالمية لحقوق الإنسان بدءً من شرعة حقوق الإنسان والمواطن التي صدرت في فرنسا عام 1789 مروراً بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 1/12/ 1948والاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية الموقعة في روما بتاريخ 4/11/1950، وانتهاءً بالشرعة ( PACTE) الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والتي كان بدأ التوقيع عليها في نيويورك بتاريخ 19/12/1966، وقد انضم لبنان إليها بموجب القانون المنفذ بالمرسوم رقم 3855 الصادر بتاريخ 1/9/1972
وإذا كانت الفقرة المضافة عام 1990 إلى المادّة /49/ من الدستور تخالف مبدأ المساواة، فإنها كذلك تبدو وكأنها عقوبة لشخص ارتكب كبرى الجنايات، بمعنى أن من يصل إلى الفئة الأولى في الوظيفة العامة يصبح وكأنه بلغ مرتبة من ارتكب جناية كبرى بحيث تفرض عليه عقوبة التجريد من حقوقه المدنية والسياسية
وإذا كان يبدو للبعض ان هذا الكلام فيه بعض المبالغة فإن العودة لنصوص قانون العقوبات اللبناني ينفي وجود اية مبالغة، وبالفعل ان قانون العقوبات اللبناني يحدد في المادّة /37/ وما يليها أنواع العقوبات وتصنيفاتها، ويأتي بين تلك العقوبات عقوبة التجريد المدني وهي عقوبة جنائية سياسية تنزل بمن يرتكب جناية سياسية ( المادّة 38 ق.ع.) وبمن يرتكب جناية كبرى بحيث يحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة ( المادّة 62/6 ق.ع.) وذلك كعقوبة فرعية أو اضافية ( المادّة 42 ق.ع.) .
وعقوبة التجريد المدني توجب حكماً، بين ما توجبه، حرمان المحكوم عليه من حقه في ان يكون ناخباً أو منتخباً ومن سائر حقوقه المدنية والسياسية( المادة 49/4 ق.ع.)
ومن ثم فإن كبار موظفي لبنان من حاكم مصرف لبنان إلى رئيس التفتيش المركزي إلى رئيس مجلس الخدمة المدنية إلى سائر المديرين العامين في الدولة، وكذلك رئيس مجلس القضاء الاعلى وسائر القضاة من افراد السلطة القضائية هم بنظر مشترع الفقرة المضافة الى المادة /49/ ينزلون منزلةمن ارتكب كبرى الجنايات بحيث يجردون من حقهم بتولي مركز الرئاسة الأولى !!!
بالطبع قيل في تبرير إضافة تلك الفقرة إلى المادّة /49/ بأن ذلك كان لمنع شاغل إحدى تلك المراكز من استغلال وظيفته سعياً للوصول إلى مركز الرئاسة الأولى، ونعتقد ان هذا التبرير يسيء إلى رئيس وأعضاء مجلس النواب بمجموعهم، لانه يضعهم في مرتبه أدنى من موظفي الفئة الاولى طالما ان الاخيرين يمكن أن يؤثروا عليهم من خلال استغلال مركزهم الإداري.
في حين ان أعضاء مجلس النواب منوط بهم ليس فقط مراقبة اولئك الموظفين بل مراقبة رؤسائهم من اعضاء السلطة السياسية ومراقبة السلطة الإجرائية بمجملها عملاً بالنصوص الدستورية، وبالأخص نص الفقرة الأخيرة من المادّة /66/ ومؤداها يتحمل الوزراء إجمالياً تجاه مجلس النواب تبعة سياسة الحكومة العامة ويتحملون افرادياً تبعة أفعالهم الشخصية، وعملاً بالمواد 60 و 61 و 70 التي تعطى مجلس النواب حق اتهام ومحاكمة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء
فكيف نزل مشترع الفقرة المضافة إلى المادّة /49/ بالنواب إلى تلك المرتبة التي يخشى معها على اكثرية أعضاء مجلس النواب بأن تتأثر بمدير عام في احدى إدارات الدولة أو المؤسسات العامة وذلك عند التعبير عن رأيهم في مسألة من أهم المسائل في الحياة السياسية والدستورية في لبنان وهي انتخاب رئيس الجمهورية؟
من أجل كل ذلك نعتقد ان أي تفسير يجب أن يعطى للفقرة المضافة في المادّة /49/ من الدستور يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الواقع المحكى عنه أعلاه، بالإضافة إلى مبادئ قانونية راسخة أهمها المبدأ القائل بأن « الأصل في الأشياء الإباحة» و « ما ثبت على خلاف القياس فغيره لا يقاس عليه» ( المادّة 15 من مجلة الأحكام العدلية)
وتبعاً لذلك كانت هناك قاعدة أساسية من قواعد التفسير مفادها ان القاعدة العامة تخضع للتفسير الواسع بمواجهة الاستثناء والقيد الذي يخضع للتفسير الضيق أو الحصري،
كذلك تقبل التفسير الواسع القواعد القانونية التي تتوافق مع النظام القانوني السائد في البلد والايديولوجية التي يعتنقها، في حين تخضع للتفسير الحصري القواعد القانونية التي لا تأتلف مع تلك الايديولوجية والنظام القانوني السائد في البلد
ان لبنان بلد يعتنق الايديولوجية التحررية ومن ثم فإن النظام القانوني السائد فيه يقوم على مبادئ اساسية نظير مبدا المساواة وتكريس الحريات العامة والحريات السياسية، وتبعاً لذلك إذا كانت القاعدة القانونية تسير في اتجاه حماية الحرية وتامين المساواة فعندها تقبل تلك القاعدة التفسير الواسع
أمّا إذا كانت القاعدة القانونية تسير في اتجاه الإخلال بمبدأ المساواة أو الحد من الحرية الشخصية فعندها يجب أن تخضع للتفسير الحصري والضيق. ولاشك في ان المنع الوارد في المادة /49/ من الدستور يخل إخلالاً فادحاً بمبدأ المساواة كما انه يضع قيودا على حقوق المواطن ـ وأي مواطن ـ المدنية والسياسية دون اي مبرر قانوني بل اكثر من ذلك إذ يبدو المنع وكأنه عقوبة جنائية نزلت بمواطن تفانى واخلص ونجح في خدمة بلده في احلك واصعب ظرف مر به لبنان.
فهل هذا المنع يفترض ان يفسر بالصورة الضيقة والحصرية أو بالصورة الواسعة والرحبة؟. نسارع الى القول انه لايمكن لاي رجل قانون الا ان يفسر النص ضمن اضيق حدود في محاولة لازالة آثاره الجائرة وغير المبررة في اي قاموس قانوني
وأخيراً هناك قاعدة في التفسير تفرض التوفيق بين النصوص عند تعارضها وإلاّ تفضيل نص على آخر عند تعذر التوفيق(3)
وتبعاً لذلك يمكن ان نتوصل، في الرد على الاسئلة التي طرحت علينا، والتي اشرنا اليها في مطلع هذه الدراسة، الى نتيجتين تنبثق عنهما لازمة واحدة:
النتيجة الأولى: ان هناك تعارضاً بين نص المادة /7/ من الدستور وبين الفقرة المضافة على المادة /49/ بشأن منع كبار الموظفين من الترشّح، ولا شك في ان المجلس الدستوري وحده هوالمؤهل للتوفيق بين النصين أو تفضيل احدهما على الآخر، ومن ثم فإننا نشك في ان المجلس الدستوري، فيما إذا قدّم إليه طعن بالاستناد إلى الفقرة المضافة، سيفضّل تطبيق ما ورد في المادة /49/ ويهمل مبدأ المساواة بين المواطنين المكرس في المادّة /7/ من الدستور والذي كانت اكدته الفقرة ج من مقدمة الدستور
النتيجة الثانية: كذلك نعتقد ان انقضاء فترة ولاية رئيس الجمهورية دون حصول الانتخاب يجعل مطروحاً للبحث مسألة ما إذا كانت الاستقالة لكبار الموظفين تبقى واجبة قبل مدة سنتين من انتهاء الولاية، بعد ان اضحى موعد الانتخاب غير محدد على وجه الدقة، وهذه المسألة لا يمكن أن يجيب عليها أيضاً إلاّ المجلس الدستوري المنوط بها النظر بالطعن بانتخابات رئاسة الجمهورية
ومن ثم فإن اللازمة التي تنبثق عن النتيجتين تسمح بالقول انه لا يمكن لأية مرجعية دستورية حالياً أن تعطي جواباً على ما طرح أعلاه من أسئلة، بل أن المجلس الدستوري وحده هو المؤهل لإعطاء الجواب، وتبعاً لذلك لا يصح أبداً التوقف عند كون المؤهل لملء مركز الرئاسة الأولى هو من كبار الموظفين، طالما أن هناك أسباباً جدية تحمل على الاعتقاد بعدم فعالية النص المانع، وطالما ان المجلس الدستوري وحده هو المؤهل لإعطاء الجواب ولكن بعد حصول الانتخابات الرئاسية
من هنا نؤكد ما كتبناه سابقاً والمنشور في جريدة النهار بتاريخ 30/11/ 2007 من ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية قبل أي تعديل دستوري
المحامي د. حلمي الحجار
(1) Droit Constitutionnel, Francis Hamom, Michel Troper,Georges
Burdeau, 27e édition 2001, L.G.D.J, P.353.
(3) زهير شكر، الوسيط في القانون الدستوري، 2001، ص 621
(3) Geny Methode d interpretation et source en droit prive positif