الدكتور حلمي محمد الحجار07/12/2004 // جريدة النهار
كتبت ريتا شرارة في جريدة النهار بتاريخ 5/12/2004 تحقيقا ورد فيه ان (النواب غابوا) عن ورشة عمل الصياغة التشريعية التي انعقدت في مجلس النواب، مستهجنة فيما يبدو هذا الغياب، ولكن هذا الاستهجان كان تبدّد لو قرأت كاتبة التحقيق ما ورد في كتابنا الذي صدر بموضوع السلطة في الدستور اللبناني من الجمهورية الاولى الى الجمهورية الثالثة – الجزء الاول المشاركة في السلطة، والذي تضمن بين ما تتضمنه من إبحاث بحثا عن قوانين الانتخاب المتعاقبة في لبنان والآثار السلبية لهذه القوانين ومن بينها بندا خصص للبحث في تدني مستوى التشربع كأحد الآثار السلبية لتلك القوانين.
وبالفعل ورد في كتابنا ما يلي: ان مجلس النواب في الدول التي تعتمد النظام الديموقراطي يمثل السلطة المشترعة منفردا او مع مجلس آخر في بعض الدول. وفي لبنان تنص المادة /16/ من الدستور على ان (تتولى السلطة التشريعية هيئة واحدة هي مجلس النواب) وهذا يعني ان المهمة الاولى لمجلس النواب هي التشريع. ولكن اذا عدنا الى مستوى التشريع في لبنان نلاحظ ان التشريعات التي صدرت في عهد الانتداب ومطلع عهد الاستقلال كانت افضل من التشريعات التي صدرت بعد ذلك سواء لجهة الصياغة او لجهة المضمون.
بالطبع لا مجال هنا لاستعراض مختلف القوانين وتقويمها من ناحية الصياغة والمضمون، ولكن نحيل المهتمين بهذا الشان الى ملاحظاتنا على بعض القوانين في الكتب التي اصدرناها لغاية الان بمواضيع قانونية مختلفة، وسوف نكتفي هنا بمثالين يظهران التدني في مستوى التشريع:
المثال الاول: هو نص المادة /68/ من القانون رقم /171/ تاريخ 6/1/2000، ومؤداها:
(يحظر على كافة وسائل الاعلام المرئية والمسموعة وكذلك المكتوبة غير السياسية، تعاطي الاعلان الانتخابي السياسي خلال الحملة الانتخابية المحددة من تاريخ دعوة الهيئات الانتخابية حتى اجراء الانتخابات واعلان النتائج النهائية تحت طائلة التعطيل والاقفال التام بقرار يصدر عن محكمة المطبوعات في غرفة المذاكرة.)
ولا شك في ان ذاكرة اللبنانيين عموما لا زالت تذكر هذا النص بعد تطبيقه على محطة تلفزيون M.T.V. وصدور قرار قضائي عن محكمة المطبوعات بتاريخ 4/9/2002 قضت بإقفال المحطة، وبعد ذلك صدور قرارات قضائية متناقضة حول طبيعة القرار الصادر في غرفة المذاكرة عن محكمة المطبوعات، وتاليا حول طرق الطعن الجائزة ضده وطبيعة الاقفال وهل هو تدبير احترازي او عقوبة جزائية. لن ندخل هنا في مناقشة القرارات القضائية، بل نسلط الضوء قويا على هذا التشريع من الزوايا التالية: ان عبارة (التعطيل والاقفال التام) هي عبارة غامضة ومطاطة، وهذا يخالف اصول التشريع في المواد الجزائية التي تفرض ان يكون معنى العقوبة او التدبير الاحترازي واضحا ومحددا على وجه دقيق، حرصا على الحريات العامة ومن بينها حرية الاعلام.
ان نص المادة /68/ اعطى محكمة المطبوعات ـــ وهي محكمة جزائية ـــ حق اصدار القرار في (غرفة المذاكرة )، ومن المعلوم ان اصدار القرارات في غرفة المذاكرة له اصول محددة في قانون الاصول المدنية وهو يتراوح بين اصدار القرار في غرفة المذاكرة وفقا للاصول الرجائية (المواد 594 الى 603 أ.م.م.) او وفقا لطريقة الاوامر على العرائض (المواد 604 الى 612 أ.م.م. ).
كما ان هناك قرارات تصدر في غرفة المذاكرة ودون انعقاد جلسات، ولكن مع احترام مبدا الوجاهية وحق الدفاع بحيث تبدو الاصول هنا مشابهة للاصول النزاعية كما هو الحال مع القرارات التي تصدر عن الغرفة الابتدائية لدى محكمة الدرجة الاولى بموضوع ازالة الشيوع في العقارات عملا بالقانون رقم 16/82.
فهل كان مشترع المادة /68/ من قانون الانتخاب يدرك ابعاد القرار الذي يصدر ( في غرفة المذاكرة) والاصول المختلفة التي تنطبق عليه؟ واذا كان يدرك، فلماذا لم يوضح اية اصول وبناء لطلب اي خصم يصدر القرار وما هي طرق الطعن التي يجوز سلوكها ضده؟
المثال الثاني: نأخذه من قانون صدر حديثا عن مجلس النواب وهو (قانون تنفيذ العقوبات) رقم /463/ تاريخ 7/9/2002.
ان القانون المحكى عنه اجاز تخفيض عقوبات الحَسَني السيرة والسلوك من المحكوم عليهم بعقوبات جنحية او جنائية مؤقتة لا تقل عن ستة اشهر (المواد 1/3/4 من القانون)، اما المخالفات وهي التي تصل العقوبة فيها الى عشرة ايام حبساً كحد اقصى (المادة 60 من قانون العقوبات اللبناني) فان التخفيض لا يمكن ان يتناولها.
ولكن يظهر ان مشترع قانون تنفيذ العقوبات لم يكن يعلم ما هو الفرق بين الجناية والجنحة وبين المخالفة ذلك انه عاد في المادة /13/ منه وأجاز اخضاع المحكوم عليه الذي تخفض عقوبته الى المراقبة الاجتماعية،، ولكن المادة /13/ نفسها شملت المحكوم (بمخالفة )؛ ثم عاد المشترع في المادة /14/ وذكر بين الحالات التي يفقد معها المحكوم عليه منحة التخفيض حالة المحكوم عليه بمخالفة.
أمّا إذا لم يكن المشترع يعلم ما هو الفرق بين الجناية والجنحة وبين المخالفة، فعندها يصح القول ان هذا المشترع مصاب بفقدان الذاكرة، ذلك انه نسي ما كان اقره في المواد الاولى عندما حصر حق الاستفادة من التخفيض فقط بالمحكوم عليهم بعقوبات جنحية او جنائية.
نكتفي بهذين المثليين للتدليل على تدني مستوى التشريع، وهما غيض من فيض وليس بالإمكان ذكر امثلة كثيرة هنا لانها قد تحتاج الى كتب عديدة بالموضوع.
ولكن انتقادنا لمستوى التشريع لا ينسينا ان هناك رجال قانون مميزين في الندوة النيابية وان كان عددهم يتضاءل مع الايام.
واذا جاز لنا ان نبدي رايا حول اسباب التدني في مستوى التشريع فنقول ان نظام الانتخاب وتقسيم الدوائر الانتخابية هو احد الاسباب، وبالفعل ان اعتماد نظام اللوائح ضمن الدوائر الكبرى من شانه ان يمنع مواطنين من رجال القانون او من اصحاب الاختصاصات الاخرى وممن يتمتعون بكفاءات عالية واحيانا بشعبية قوية في محيطهم الجغرافي وفي لبنان عموما من الترشح ومن ثم الوصول الى الندوة النيابية.
بالطبع يمكن ان لا يدرك الآثار السلبية لتدني مستوى التشريع الا رجال القانون وبعض المواطنين الذين قد يقعون ضحية لهذا التشريع، وعندها يطرح السؤال: من هو المسؤول؟ اذا اخطا الموظف او اخطا القاضي في تطبيق القانون فقد يمكن اصلاح الخطا بطرق المراجعة الادارية بالنسبة للموظف او بطرق المراجعة القضائية بالنسبة للقاضي.
ولكناذا اخطا المشترع ذاته في وضع القانون، فمن يحاسبه؟ ومن يتحمل نتائج هذا الخطا؟ لا شك في ان المواطن والشعب اللبناني بمجمله هو الذي يتحمل نتائج خطا المشترع، وقد اثبتت التجربة ذلك!
من هنا نقول انه لو كانت كاتبة المقال تعلم هذه الحقيقة لما استغربت غياب النواب عن جلسات ورشة عمل الصياغة التشريعية.