الدكتور حلمي محمد الحجار16/05/2008 // جريدة النهار
صباح الجمعة الواقع فيه 9/5/2008 اقفل تلفزيون المستقبل الذي يبث برامجه من مركزه في محلة القنطاري في بيروت، وكان الاقفال قسرياً وبقوة السلاح؛ ولكن صوت المستقبل عاد في المساء من على شاشة الـ LBC مع برنامج كلام الناس خلال استقبال مقدم البرنامج الاعلامي الشهير مرسال غانم لبعض افراد طاقم تلفزيون المستقبل الاستاذ نديم المنلا ومعه الاعلاميون سحر الخطيب وديانا مقلد وحسن وشربل عبود.
ولم يكن صوت تلفزيون المستقبل ليتمكن من الظهور مجدداً من على شاشة الـ LBC لو كانت تلك المحطة تقع في ذات المنطقة التي يقع فيها تلفزيون المستقبل وتعبر عن وجهة نظر ذات المجموعة التي يعتبر البعض ان تلفزيون المستقبل ينتمي اليها.
ان ما مكّن الـ LBC من التعبير عن صوت تلفزيون المستقبل رغم اقفال الاخير بقوة السلاح هو ان تلفزيون الـ LBC محسوب على مجموعة من مكونات المجتمع اللبناني غير المجموعة المحسوب عليها تلفزيون المستقبل، ومفهوم ان المقصود بالمجموعات التي تكون المجتمع اللبناني هي الطوائف الستة عشرة التي اقر نظامها القرار التشريعي رقم /60/ الصادر بتاريخ 13/3/1936 بعنوان اقرار « نظام الطوائف الدينية »
وبالمختصر يصح القول ان الاعلام المحسوب على مجموعة غير المجموعة المحسوب عليها تلفزيون المستفبل بقيت تملك الكلمة الحرة وانبرت تدافع عن حرية الاعلام وحرية الراي لمجموعة اخرى من مكونات المجتمع اللبناني
خلال مشاهدتي لبرنامج كلام الناس في تلك الليلة واحساسي بان تلفزيون المستقبل، المقفلة مكاتبه في القنطاري، بقي حاضراً من على شاشة الـ LBC تذكرت كتاباً كنت قد اصدرته عام /2004/ بعنوان «السلطة في الدسـتور اللبنانـي مـن الجمهورية الأولى إلى الجمهورية الثالثة، الجزء الأول ـ المشاركة في السلطة» حيث بحثت فيه مشاركة الطوائف في تكوين السلطة في لبنان من خلال الاتفاق على توزيع بعض مراكز السلطة والوظائف العامة على الطوائف أو بعضها بما عرف بالطائفية السياسية، وقد بينت في الكتاب مساوئ الطائفية السياسية واهمها : ـ الاخلال بمبدأ المساواة بين المواطنين ـ الخلل في علاقة المواطن بالدولة ومدى قبوله بالسلطة ـ الطابع المزدوج للقائمين بالسلطة وانعكاس ذلك على القرار الوطني.
الا ان ما حضر الى خاطري في تلك الحظة لم يكن ما كتبته عن مساوئ الطائفية السياسية بل ما كتبته عن الآثار الايجابية للطائفية السياسية ـ رغم مساوئها الكثيرة ـ، وتبعاً لذلك قد يكون من المفيد ايراد ما ورد في الكتاب في الصفحة /170/ وما يليها وتحت الرقم /75/ وهو بعنوان « الآثار الايجابية للطائفية السياسية ـ الحفاظ على الديموقراطية وضمان الحريات العامة في لبنان ». ورد في الكتاب حرفيا ما يلي:
« غني عن البيان أن الدستور اللبناني صدر عام/1926/ وهو مستقى إجمالاً من دستور الجمهورية الثالثة في فرنسا. وهو يعتمد النظام الديمقراطي البرلماني ويضمن الحريات العامة، وإن كان إعتماد النظام البرلماني لم يكن واضحاً بما فيه الكفاية )1(.
بالطبع إذا كان الدستور اللبناني إستوحي من دستور الجمهورية الثالثة فإن ذلك كان أمراً طبيعياً نظراً لأن لبنان كان لا يزال يخضع للإنتداب الفرنسي، والدستور الفرنسي الذي كان مرعياً آنذاك هو دستور الجمهورية الثالثة.
وإعتماد لبنان دستور مستوحى من دستور الدولة المنتدبة جاء متوافقاً مع الحركة الدستورية في الدول التي كانت خاضعة للإستعمار أو للانتداب، إذ إن تلك الدول إعتمدت إجمالاً، بعد إستقلالها، دساتير البلدان المُسْتعمِرة أو المُنْتَدَبَة.
من هنا برزت مشكلة في تلك الدول تتعلق بممارسة الديموقراطية السياسية وضمان الحريات العامة، فالدول المُسْتعمِِرة أو المُنْتَدَبَة كانت عريقة في ممارستها للديموقراطية ودفاعها عن الحريات العامة ولذلك فإن أوضاعها الدستورية كانت تتلاءم مع واقعها.
أمّا الدول التي إستقلت حديثاً فإن النظام الديموقراطي أُعْطِي لها رغم أن واقع البعض منها لم يكن مهيأً لممارسة الديموقراطية، من هنا تحولت بعض تلك الدول عن النظام الديموقراطي البرلماني نحو النظام الرئاسي أو حتى نحو الديكتاتورية بحيث لم تقم وزناً للديموقراطية السياسية وللحريات العامة متجاهلة بذلك الأحكام الدستورية المقررة فيها
ولا شك في أن تحوّل تلك الأنظمة عن مسار الحياة الديموقراطية أتى نتيجة أسباب أيديولوجية وإقتصادية وأحياناً بسبب عدم تقبلها فكرة الازدواجية في السلطة وتعلقها بشخص الحاكم بدل تعلقها بالمؤسسة الحاكمة(2)
من هنا تبرز ميزة في الحياة الدستورية اللبنانية وهي الحفاظ على الديموقراطية السياسية وضمان الحريات العامة، إذ إنه رغم الشوائب التي شابت الممارسة الديموقراطية، بقي الطابع الديموقراطي هو الغالب والحريات العامة مصونة نسبياً.
ونعتقد أنه إذا كان للطائفية السياسية سلبيات عديدة ( راجع البند 77 وما يليه من كتابنا السلطة في الدستور اللبناني) الاّ أنه يبقى لها إيجابية هامة تتمثل بالحفاظ على الديموقراطية ومنع تمركز السلطة حول شخص واحد مع ما في ذلك من تهديد للديموقراطية ذاتها وتهديد للحريات العامة.
وآية ذلك أنه إذا كان يسهل على الحاكم أحياناً أن يؤمن الولاء لشخصه في المؤسسات الدستورية فكان يتعذر عليه أن يؤمن ولاء الطوائف، من هنا كانت الطوائف تنتصب أحياناً عائقاً أمام الحاكم لمنع تمركز السلطة حول شخصه، ولنا في ذلك شواهد خلال مرحلة الإستقرار السياسي بين مطلع عهد الإستقلال ولغاية أواخر الستينيات، ثم أتت الأحداث التي بدأت عام /1975/ لتعزر تلك الشواهد:
ـ خلال مرحلة الإستقرار السياسي كان الحاكم يطمح أحياناً للتجديد أو لإختيار معاونيه على أسـاس الروابط الشخصية الأمر الذي يسهل تمركز السلطة حول شخصه، ولكـن الطوائف كانت تنتصب في وجهه إنطلاقاً من حقوقها في المشاركة بالسلطة (3)
ـ خلال الأحداث التي بدأت عام /1975/ وتغييب سلطة الدولة لصالح سلطة قوى الأمر الواقع، فإن تلك السلطة تمركزت حول شخص المسؤول في الطائفة بحيث حلّ ضمن كل طائفة رئيس أمر واقع مطلق الصلاحية، محل سلطة الدولة لأنه لم يكن بإمكان الطوائف الأخرى أن تمنع ذلك.
ـ إن الحالة التي عاشتها المناطق الشرقية بعد توقيع إتفاق الطائف عام /1989/ جاءت تؤكد الحقيقة ذاتها، وليس أدل على ذلك من التعرّض لحرية الرأي والنشر في النصف الثاني من كانون الثاني من عام /1990/ وذلك عبر تقييد حرية وسائل الإعلام من قبل الحاكم هناك، حيث لم تتجرّأ وسائل الإعلام في المنطقة الشرقية وأصحابها من المنتمين لطائفة الحاكم هناك على قول كلمتها بحرية حول تقييد حرية الإعلام
في حين إنبرى أصحاب وسائل الإعلام في المناطق الأخرى ومن غير طوائف ووقفوا بحزم ضد تقييد حرية الإعلام، ويشهد على ذلك المؤتمر الصحفي الذي عقده نقيب الصحافة محمد البعلبكي بتاريخ 19/1/1990 في مركز نقابة الصحافة في بيروت وإعلانه يوم 20/1/1990 يوماً للدفاع عن الحريات(4)
وبالفعل متى كانت السلطة محصورة بالطائفة فيسهل قيام ديكتاتور ضمن تلك الطائفة في حين يصعب بل يتعذر ذلك متى كان القبول بالسلطة متوقّفاً على الطوائف الأخرى، لأنه إذا تعذر على أبناء الطائفة الوقوف بوجه الحاكم ضمن الطائفة ذاتها فإن مواقف أبناء الطوائف الأخرى يبقى كفيلاً بالحد من جنوحه نحو تمركز السلطة حول شخصه.
أكثر من ذلك إذا قارنا الحياة السياسية في لبنان مع محيطه العربي نجد أن لبنان هو الوحيد الذي بقي خارج دائرة الإنقلابات العسكرية وخارج دائرة توريث رئاسة الدولة، وبالطبع لم يكن ذلك بنتيجة عدم وجود عسكر في لبنان أو بنتيجة عدم الرغبة في توريث السلطة، بل كان نتيجة تعدد الطوائف وحرص تلك الطوائف على المشاركة في الحياة السياسية بشكل يمنع تمركز السلطة وإستمرارها من خلال شخص واحد».
انتهى ما ورد في كتابنا عن الاثار الايجبية للطائفية السياسية الصادر عام 2004
واذا كان لنا ان نضيف هنا شيئاً بمناسبة ما يشهده لبنان حالياً من احداث، فاننا نتساءل عما اذا كانت الطوائف الاسلامية المعترف بها في لبنان بموجب القرار رقم /60/ الصادر بتاريخ 13/3/1936 تملك بمفردها القدرة على تغيير ما هو مقرر دستورياً، وبالاخص بعد التعديلات التي طالت الدستوري اللبناني بموجب القانون الدستوري رقم 18/90 الذي صدر تطبيقا لوثيقة الوفاق الوطني التي اقرها النواب اللبنانيون في الطائف؟
وبعبارة اوضح هل ان غلبة السلاح لفريق على فريق داخل الشارع الاسلامي يكفي لتغيير او قلب الاوضاع الدستورية المتفق عليها بين جميع اللبنانيين ؟ الا يتطلب تعديل ما هو مقرر وقائم دستورياً موافقة جميع مكونات المجتمع اللبناني؟ وبالتالي كيف السبيل لانتزاع موافقة بقية مكونات المجتمع اللبناني من غير الطوائف الاسلامية، هل يكون ذلك أيضاً بقوة ذات السلاح؟ ام تبقى الطائفية السياسية قادرة على اعادة جبر ما انكسر من خلال اعادة الجميع الى طاولة الحوار ولكن بعد مراجعة الذات والاقرار بعدم جدوى استعمال السلاح؟
------------------------------------------
(1) راجع عن القوانين الدستورية في الجمهورية الثالثة.
Georges Burdeau, Droit constitutionnel et instiutions politique.13ème éd. p.
304 et s; J.Jickel, Droit constitutionnel et instiutions politique.9ème éd p. 524.
(2)Voir, J.Jickel, Droit constitutionnel et institutions politiques, 9ème éd. P. 465 et s.
(3) وإذا لم نعط أمثلة هنا فالقصد من ذلك هو عدم الإساءة إلى أحد، ولكن تاريخ لبنان السياسي بين عام
/1943/ وأواخر الستينيات مليء بالأمثلة ونترك للقارئ نفسه أن يتذكر بعضها.
(4) بث وقائع هذا المؤتمر تلفزيون لبنان في تلة الخياط مساء اليوم نفسه كما نشرته الصحف في اليوم
التالي ( راجع السفير تاريخ 20/1/1990 ص 3).