الدكتور حلمي محمد الحجار29/01/2005 // جريدة السفير
بمناسبة إقرار مشروع قانون إنشاء مؤسسة وسيط الجمهورية من قبل مجلس الوزراء اللبناني وإحالة المشروع إلى مجلس النواب، تنفرد السفير بنشر دراسة للقاضي السابق المحامي الدكتور حلمي الحجار عن مؤسسة وسيط الجمهورية في فرنسا وجذور هذه المؤسسة في الامبدسمان(L'Ombudsman) السويدي(1)، وتبحث الدراسة في مؤسسة الامبدسمان المعروفة في السويد (أولاً) ثم في مؤسسة وسيط الجمهورية المعروفة في فرنسا (ثانياً)
أولاً: المدافع عن القانون وحقوق المواطنين أو الامبدسمان (L'Ombudsman) في السويد
إن كلمة «الامبدسمان» معروفة منذ القدم في السويد، وقد أصبحت معروفة حالياً في سائر اللغات، وهي تعني الوكيل أو المندوب أو الممثل أو المفوض.. وتنصب مهمته الأساسية على الدفاع عن القانون وحقوق المواطنين.
لقد ظهرت مؤسسة الامبدسمان في السويد بشكلها القانوني في دستور /1809/، ولكن قبل هذا التاريخ كان يوجد منذ عهد طويل إدارة ملكية ( un office royal ) مهمتها السهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة من قبل أجهزة السلطة وعمالها، فأتى دستور /1809/ وأنشأ مؤسسة الامبدسمان للدفاع عن القانون.
ويتم تعيين الامبدسمان عن طريق الانتخاب من قبل البرلمان لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد ويجب أن يكون المرشح لهذا المنصب مشهوداً له بالعلم في الحقل القانوني وبالنزاهة والتجرد. وفي البداية وعند صدور دستور /1809/ كان يقوم بمهمة الامبدسمان شخص واحد إلا أن العدد ازداد بعد ذلك بشكل متواصل.
وبتعيين الامبدسمان من قبل البرلمان ظهر وكأنه يهدف لفرض احترام مبدأ فصل السلطات، كون مهمته تنصب على مراقبة احترام القوانين من قبل أجهزة السلطة الإدارية ومن قبل المحاكم.
ولكن رغم انتخاب الامبدسمان من قبل البرلمان إلا أنه يمارس صلاحياته وسلطاته بالاستقلال الكامل عن البرلمان والحكومة، بمعنى أن أياً منهما لا يملك أية سلطة تجاهه فهو يستقل باختيار وتعيين معاونيه كما أنه لا يتلقى أية تعليمات من قبل أعضاء السلطة، من هنا يظهر
وكأنه مؤسسة قائمة خارج إطار السلطة للسهر على حسن تطبيق القانون وحماية حقوق المواطنين بمواجهة أعضاء السلطة، ومن ثم فهو لا يتبع ولا يخضع في قيامه بوظيفته إلا لسلطة القانون(2).
ويتضح من خلال ذلك أن وظيفة الامبدسمان تتجاوز موضوع الحريات العامة لتشمل النظام القانوني في الدولة بمجمله، إلا أن الحريات العامة وبالأخص حماية الحرية الفردية حيال التوقيفات الكيفية، تظهر بشكل صريح بين المواضيع التي يجب على الامبدسمان أن يوليها عناية خاصة.
ويشمل اختصاص الامبدسمان، وباستثناء الوزراء، كل عمّال السلطة العامة وأجهزتها بما في ذلك القضاة، وهو يسهر على احترام القانونية واحترام الكرامة الشخصية للإنسان واحترام حرية الصحافة والمعاملة السويّة للمواطنين بشكل عام بمن فيهم رجال قوى الأمن والمساجين.
ويتم تحرّك الامبدسمان إمّا عفواً بناء على تحقيقات يقوم بها هو ومعاونوه أو بناء لتحقيقات صحفية يتولاها مكتبه، وإما بناء لطلب أو شكوى من أحد المواطنين. وتلقي الامبدسمان لشكاوى المواطنين وتقديم الدعوى بالاستناد إليها غير مرهون بتوفر الشروط العامة للدعوى ـ وبالأخص الصفة والمصلحة ـ عند من قدّم الشكوى بل يمكن أن تَرِد الشكوى من أي مواطن فتظهر الدعوى هنا بمظهر الدعوى العمومية أو الدعوى الشعبية المفتوحة أمام جميع المواطنين يمارسها الامبدسمان باسمهم..
ويتمتع الامبدسمان بأوسع الصلاحيات بمواجهة أجهزة السلطة من أجل استجلاء القضايا التي يضع يده عليها، فله أن يقوم بكل التحقيقات بما فيها الاطلاع على المستندات وإجراء الإستجوابات دون أن يخضع في عمله لأية صيغ شكلية، وعلى ضوء التحقيقات التي يجريها، يجوز له أن يتخذ أحد المواقف التالية:
ـ إذا وجد أن القضية يمكن أن ترتّب مسؤولية مدنية أو جزائية ضد أحد أفراد السلطة من موظفين أو قضاة، يكون من حقه أن يقيم الدعوى عليه أمام المحكمة المختصة تماماً كالنيابة العامة.
ـ إذا وجد أن هناك مخالفة للقانون تشكل خطأ قليل الأهمية لا يستدعي تقديم الدعوى، فيمكنه أن يكتفي بتوجيه أخطار أو تنبيه أو إنذار إلى الموظف.
ـ كما يمكن أن يكتفي بتوجيه إرشادات إلى الموظف تتعلق بحسن تطبيق القانون دون أن ينسب إلى هذا الموظف أي خطأ.
ويتضح من خلال ما تقدم أن الامبدسمان لا يعتبر محكمة، ومن ثم لا يمكنه أن يصدر أي قرار بموضوع أي نزاع كما لا يعتبر سلطة إدارية تستطيع إصدار القرار لأن مهمته تقتصر فقط على إجراء التحقيقات وقبول شكاوى المواطنين ليتخذ على ضوئها الموقف الذي يراه مناسباً للدفاع عن القانون وحماية حقوق المواطنين، سواء بتوجيه الإرشادات أو الإنذارات إلى الموظفين والقضاة أو بإقامة الدعوى ضدهم أمام المحكمة المختصة. وهنا تُفْضي المراقبة غير القضائية، ومن خارج أجهزة السلطة، إلى ملاحقة قضائية متى تقدم الامبدسمان بدعوى أمام المحكمة المختصة.
إلا أن مهمة الامبدسمان تنحصر فقط بأفراد السلطة العامة وأجهزتها المختلفة ومن ثم لا يمكنه أن يتحرك بمواجهة الأفراد العاديين، لأن هذا الموضوع يخرج عن اختصاصه.
ويجوز للامبدسمان دوماً أن يتوجه إلى الحكومة بمقترحات لتعديل القوانين والأنظمة المرعية، كما أنه يقدم تقريراً سنوياً عن نشاطاته وعن الأعمال التي قام بها وأهم المخالفات التي صار اكتشافها، والمقترحات التي يراها مناسبة لحسن سير عمل الإدارة، وينشر هذا التقرير علناً.
ويبدو أن التجربة السويدية حظيت بإعجاب بعض الدول الأخرى، فاعتمدت تلك الدول مؤسسة الامبدسمان في قوانينها بصيغ مشابهة متقاربة أو مختلفة بعض الشيء عن الصيغة السويدية، وكانت فنلندا أول تلك الدول إذا أخذت بمؤسسة الامبدسمان في دستورها الصادر فور استقلالها عام 1919، وتلتها الدانمارك بموجب قانون صدر بتاريخ 11/9/1954 وأدخلت عليه بعض التعديلات عام /1956/، وألمانيا الاتحادية عام /1956/ بالنسبة للقوى المسلحة، وكيبك ـ كندا ـ وأخذ هناك اسم حامي المواطنين ( le protecteur des citoyens ) بموجب قانون صدر بتاريخ 14/11/1968، ثم أسبانيا عام 1982 وقد أطلقت عليه اسم المدافع عن الشعب (Le défenseur du peuple)
وقد أُعِدّت دراسات وعُقِدت مؤتمرات بموضوع مؤسسة الامبدسمان، ويظهر أن تلك المؤسسة كان لها صداها في فرنسا التي أنشأت مؤسسة مشابهة باسم وسيط الجمهورية.
ثانياً ـ وسيط الجمهورية أو الوسيط (le médiateur) في فرنسا
ابان حرب الجزائر وبسبب الإنتهاكات الخطيرة التي تعرضت لها الحريات العامة، وبالأخص استعمال وسائل التعذيب، قررت الحكومة الفرنسية بتاريخ 20/8/1957 إنشاء لجنة لضمان الحقوق والحريات ( (Commission de sauvegarde des droits et libertés ثم أعادت تنظيم تلك اللجنة بموجب قرار صدر بتاريخ 20/8/1958، إلا أن اللجنة لم تقم بعمل يذكر بسبب الأوضاع المضطربة التي كانت تحيط بظروف عملها.
ولكن رغم فشل اللجنة في عملها، فإن فكرة الضمانة غير القضائية للحقوق والحريات العامة لم تغب عن البال في فرنسا، ولعل ذيوع صيت الامبدسمان على الطريقة السويدية كان له أثره على صعيد الرأي العام والسلطة العامة في فرنسا، فصدر بتاريخ 3/1/1973 قانون أنشأ مؤسسة وسيط الجمهورية أو الوسيط (le médiateur)، وقانون آخر بتاريخ 24/12/1976 وسّع وسائل عمله ومسؤولياته.
ولكن على خلاف الطريقة السويدية بتولية الامبدسمان من قبل البرلمان، فإن تولية وسيط الجمهورية في فرنسا تتم من قبل السلطة الإجرائية بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء لمدة ست سنوات. ومنذ عام /1978/ أصبح يوجد في كل محافظة وسيط تشمل صلاحيته نطاق المحافظة بكامله.
ولكن رغم تعيين الوسيط من قبل السلطة الإجرائية إلا أنه يعتبر سلطة مستقلة ( Autorité indépendante ) لا يتلقى تعليمات أو أوامر من أية سلطة أخرى (3).
إلا أنه، بخلاف الامبدسمان، لا يضع يده مباشرة على شكاوى المواطنين بل فقط بواسطة عضو من أعضاء البرلمان سواء في مجلس الشيوخ أو مجلس النواب، بمعنى أن المواطن يوجه الشكوى إلى عضو البرلمان فإذا وجد الأخير أن الشكوى جديرة بإحالتها إلى وسيط الجمهورية فيحيلها إليه، وعندها يضع الأخير يده على الشكوى ويعطيها مجراها القانوني. ويملك وسيط الجمهورية سلطة واسعة في إجراء التحقيقات بموضوع الشكاوى التي يتلقاها، وقد وسع قانون /1976/ نطاق هذه السلطة: فالوزراء ملزمون بالترخيص للموظفين التابعين لهم بتزويد وسيط الجمهورية بكل المعلومات التي يطلبها دون أن يحق لهم التذرع بسرية المعلومات الإدارية، إذ أن السرية لا تنطبق عليه.
وتشمل صلاحياته كل الحالات التي يظهر فيها أن جهازاً من أجهزة السلطة العامة لم يقم بوظيفته طبقاً للمصلحة العامة التي يفترض به أن يؤمنها، وبالطبع أن تلك المهمة تشمل بين ما تشمله الإنتهاكات التي يمكن أن تتعرض لها الحريات العامة، لأن تلك الانتهاكات من قبل أجهزة السلطة تشكل ابتعاداً منها عن مفهوم المصلحة العامة التي التزمت القيام بها.
ولكن بنتيجة التحقيقات التي يجريها فإن سلطاته تبقى محدودة بالمقارنة مع الامبدسمان، فقد ذكرنا أنه يجوز للامبدسمان أن يتقدم بالدعوى ضد أي موظف في الإدارة، في حين ان وسيط الجمهورية لا يملك هذه السلطة بل ينحصر دوره بتوجيه توصية (Recommandation) إلى الإدارة المختصة دون أن يكون لتلك التوصية أية قوة ملزمة، وإنما يجوز نشر التوصية علنا، وبالتالي فإن وسيط الجمهورية لا يتمتع بأية سلطة ملزمة للإدارة باستثناء حالة وحيدة هي حالة امتناع الإدارة عن تنفيذ حكم قضائي، إذ في هذه الحالة يتمتع وسيط الجمهورية بسلطة إلزام الإدارة بأن تذعن للحكم، ولكن حتى في هذه الحالة فإن سلطته تبقى ضمن إطار من الضغط المعنوي لأنه إذا لم تمتثل الإدارة إلى أمره فهو لا يملك الوسائل الكفيلة بإلزام الإدارة بالتنفيذ.
ويمكن لوسيط الجمهورية، وبنتيجة التحقيقات التي يقوم بها من خلال القضايا التي يضع يده عليها أصولاً، أن يتقدم إلى الحكومة بمقترحات من أجل إصلاح الوضع الإداري، فيلعب هنا دور الأداة لكشف الخلل الإداري وإصلاحه.
ولكن، كما ذكرنا أعلاه، بقيت سلطات وسيط الجمهورية في فرنسا محدودة بالمقارنة مع الامبدسمان السويدي؛ بالإضافة إلى ذلك فإن دور الوسيط بقي أيضاً محدوداً في مجال حماية الحريات العامة
وتبعاً لذلك نقترح أن يقوم مجلس النواب، عند طرح مشروع القانون للمناقشة أمامه، بإعتماد نظام الامبدسمان السويدي بدلاً من نظام الوسيط المعتمد في فرنسا
(1) والدراسة مأخوذة من بحث بعنوان « الضمانات المتوفرة لحماية الحريات العامة خارج إطار السلطة» ورد كنموذج عن بحث قانوني في كتاب المنهجية في القانون، للدكتور حلمي الحجار ـ الطبعة الثانية /2003/ ص. /368/ وما يليه
(2) يراجع بالموضوع:
Claude- Albert coliard, libertés publiques, 7ème éd, Paris 1989 No 150 et s.
(3) يراجع حول هذا الموضوع:
Jaques Robert, Droits de l'homme et libertés fondamentales, Paris 1994, No 158 et s.