المحامي الدكتور حلمي الحجار05/08/2019 // النهار
إن الدستور اللبناني، كما وضع عام /1926/، أوجب تمثيل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وفي تشكيل الوزارة، مع إعتبار هذا النص مؤقتاً ( المادّة 95) وعلى أمل القضاء على الطائفية نهائياً والعبور بالبلاد من مرحلة التوزيع الطائفي إلى مرحلة التوزيع الوطني الشامل للمناصب والوظائف، كما جاء في بيان أول حكومة في عهد الإستقلال.
جاء إتفاق الطائف عام /1989/، ومن بعده التعديل الدستوري الذي حصل بموجب القانون الدستوري رقم 18/90، يَعِدُ اللبنانيين بالعمل على إلغاء الطائفية السياسية. وبالفعل إن المقدمة التي أضيفت إلى الدستور بموجب القانون رقم 18/90 نصت في البند « ج» على أن « إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضى العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية» وتبعاً لذلك تضمنّت المادّة /95/ من الدستور بصيغتها الجديدة ما يلي:
« على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين إتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية وإجتماعية.
مهمة الهيئة دراسة وإقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية».
إلاّ أن الفقرات الأخيرة من المادّة ذاتها كما تعدلت بالقانون الدستوري رقم 18/90 نصت على المرحلة الإنتقالية التي تسبق إلغاء الطائفية السياسية، وهذا يعني أن الطائفية السياسية تبقى قائمة في المرحلة الإنتقالية إنما مع تخفيف حدّتها من خلال القواعد التالية التي وردت في تعديل عام /1990/.
ـ بقيت الطائفية السياسية سارية في توزيع المقاعد النيابية، ولكن مع توزيع المقاعد بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين ونسبياً بين طوائف كل من الفئتين ( المادّة 24 من الدستور كما تعدلت بالقانون الدستوري رقم 18/90)، وهذا يعني أن قاعدة خمسة وخمسة مكرر التي كانت قائمة قبل ذلك قد أُلْغيت.
ـ تمثّل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة ( البند أ من المادّة 95).
ـ يبقى توزيع وظائف الفئة الأولى وما يعادلها خاضعاً لقاعدة التمثيل الطائفي مناصفة بين المسيحيين والمسلمين، وقد تم تخفيف حدة القاعدة بالنص على أن القاعدة تطبق «دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الكفاءة والإختصاص» ( الشطر الأخير من البند ب من المادّة 95).
ـ ألغيت قاعدة التمثيل الطائفي في بقية الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني (الشطر الأول من البند ب من المادّة 95).
وبمناسبة اقرار مجلس النواب لقانون موازنة العام 2019 طفى على السطح مشكلة المادة 80 من ذات القانون التي حفظت حق مرشحين للوظيفة العامة نجحوا في المباريات التي أجراها مجلس الخدمة المدنية بحجة فقدان التوازن الطائفي بين الناجحين في تلك المباريات.
وإذا كان لنا من تعليق على مثل المشكلة المتقدمة، فلا بد من العودة الى الاسباب الموجبة التي حتمت على مشترع الطائف الغاء الطائفية السياسية في الوظيفة العامة في لبنان، لتبيان ابعاد التمسك بالمناصفة في الوظيفة العامة ومخاطرها على الادارة العامة في لبنان.
للإحاطة بالاسباب الموجبة لالغاء الطائفية السياسية في الوظيفة العامة في لبنان، كما اقرها القانون الدستوري رقم 18/90، لا بد من من إلقاء الضوء على سياق ظهور اية قاعدة قانونية في المجتمع ـ
أن القاعدة القانونية تنبت أصلاً وتولد من رحم الـحدَث الاجتـماعي كضرورة لتنظيـم العلاقات القانونـية الـمرتبطة بهذا الـحدث. فـالـحدث الاجتـماعي (Le fait social) هو أسبق بالظهور من القاعدة القانونـية، إذا أن هذه القاعدة لـم تظهر للوجود إلا عند البحث فـي تنظيـم العلاقات ضمن المجتمع، وينتـج عن ذلك أن القاعدة القانونـية، كقاعدة منظمة للعلاقات ضمن الـمـجتـمع، تـجد مادتها الأولـية في العلاقات الاجتماعية.
ومن ثم إذا عدنا الى القاعدة الدستورية التي ألغت المناصفة في الوظيفة العامة، باستثناء وظائف الفئة الاولى، لا بد من تبيان الحدث الاجتماعي التي هدفت تلك القاعدة الى تنظيمه.
ان الحدث الاجتماعي التي هدفت تلك القاعدة لتنظيمه هو وجود إدارة عامة في لبنان، وتعيين الموظفين فيها عن طريق مباريات يجريها مجلس الخدمة المدنية لتعيين الاكفأ والأفضل لتولي الخدمة العامة في الادارة اللبنانية، وبالطبع ان المرشحين للاشتراك في مثل تلك المباريات هم المواطنون اللبنايون من مختلف الطوائف والمذاهب؛ وضمن هذا الحدث الاجتماعي تطفو على السطح حقيقة ساطعة للعيان وهي تتمثل بفقدان التوازن في عدد ابناء الطوائف الذين يشتركون في المباريات، وبالاخص بين ابناء الطوائف الاسلامية وابناء الطوائف المسيحية. ومن الطبيعي ان تتأثر نتيجة المباريات بهذه الحقيقة فيأتى الناجحون من ابناء الطوائف الاكبر عدداً اكثر من الناجحين من ابناء الطوائف الاقل عدداً. أضافة الى الفارق في العدد بين المرشحين من ابناء الطوائف المختلفة هناك ايضاً اختلاف في مزاج ابناء الطوائف احياناً في الرغبة في تولي الوظيفة، وبالاخص في الدرجات الدنيا، ذلك ان هناك ابناء طوائف معينة تفضل الانصراف الى اختيار العمل في القطاع الخاص بدل القطاع العام.
وتبعاً لذلك كان النص في القانون الدستوري رقم 18/90 على حصر المناصفة في الوظيفية العامة بوظائف الفئة الاولى تداركاً لما قد يؤول اليه وضع الادارة اللبنانية في حال الابقاء على المناصفة في جميع الوظائف العامة بما فيها الوظائف الدنيا، ذلك ان الادارة اللبنانية ستصل عنئذٍ الى الشلل التام طالما ان التوازن سيبقى مفقوداً بل سيزداد حدة مع الايام بين عدد المرشحين من ابناء الطوائف الاسلامية وبين عدد المرشحين من ابناء الطوائف المسيحية، وتالياً طالما ان عدم التوازن سيبقى قائماً بين الناجحين من ابناء تلك الطوائف.
ولعله كان من الافضل لمن يحمل لواء المناصفة في الوظيفة العامة ويعلن جهارة رفضه لتطبيق النص الدستوري، ان يقول للبنانيين كيف سيحل مشكلة ملء المراكز الشاغرة في الادارة اللبنانية طالما ان فقدان التوازن الطائفي بين الفائزين في المباريات يزداد حدة يوماً بعد يوم؟
ولكن مشكلة لبنان اليوم هي في غياب رجال دولة يحملون هم وطنهم ويقدرون ابعاد مواقفهم!!!