الدكتور حلمي محمد الحجار01/10/1988 // النشرة القضائية اللبنانية العدد السادس
النشرة القضائية اللبنانية
العدد السادس
عام 1988 باب المقالات ص.37
آثار القرارات الصادرة عن القضاء الجزائي على المراجعة الادارية
بقلم القاضي حلمي الحجار
دكتور في الحقوق
استاذ في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية
مقدمة
يمكن ان ياتي الموظف، اثناء او بسبب ممارسة الوظيفة، عملا مضرا بالغير قد يتصف بالصفة الجرمية وعندها يمكن ان يلاحق الموظف شخصيا امام المحكمة الجزائية كما يمكن مطالبته بالتعويضات الشخصية امام هذه المحاكم اذا كانت الاصول المطبقة لديها تسمح باقامة دعوى الحق الشخصي تبعا لدعوى الحق العام. ولا بد هنا من ابداء الملاحظتين التاليتين:
الملاحظة الاولى: تقتصر الملاحقة الجزائية على الموظف ولا تتعداه الى السلطة العامة وانما يبقى بالامكان مطالبة السلطة بالتعويضات الشخصية متى توفرت شروط مسؤوليتها عن عمل الموظف.
الملاحظة الثانية: ان المحاكم العدلية وان كانت مختصة بالنظر في الجرائم التي يرتكبها الموظفون بعد موافقة الادارة المختصة على الملاحقة متى كانت الجريمة ناشئة عن الوظيفة، الا ان تلك المحاكم تبقى غير مختصة بالزام الادارة بالتعويضات الشخصية المترتبة بسبب تلك الجرائم اذ ان الفصل بها يبقى مبدئيا من اختصاص المحاكم الادارية (يراجع جوزيف زين الشدياق، قوة الجزاء على الحقوق امام القضاء الاداري، المجموعة الادارية 1964، ص 12).
والنتيجة المترتبة على الملاحظتين المتقدمتين انه يبقى على المتضرر ان يراجع القضاء الاداري من اجل مطالبة السلطة العامة بالتعويضات الشخصية عن عمل الموظف المتصف بالصفة الجزائية باعتبار مجلس الشورى هو المحكمة العادية في القضايا الادارية (المادة /14/6/1975)، الا في الاحوال المسثناة والتي يعود فيها امر الفصل بالنزاع للمحاكم العدلية (راجع حول هذا الموضوع كتابنا: القانون القضائي الخاص، طبعة ثانية 1987 بند 429 وما يليه). وعند التقدم بالمراجعة الادارية يمكن ان يواجه القضاء الاداري بالملاحقة الجزائية ضد الموظف والحكم الصادر في القضية، وعندها بطرح السؤال: ما أثر الملاحقة الجزائية على المراجعة الادارية؟
ان المبدأ الذي اعتمده المشترع اللبناني في قانون اصول المحاكمات المدنية هو ان الحكم يحوز حتما قوة القضية المحكمة بشروط ثلاثة:
1- ذاتية المتداعين. 2- ذاتية السبب. 3- ذاتية الموضوع. (المادة /555/ معطوفة على المادة /303/ من قانون اصول المحاكمات المدنية اللبناني الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 90/83 والمعدل بالمرسوم الاشتراعي رقم 20/85).
ولكن مبدأ قوة القضية المحكمة يحتمل بعض الاستثناءات، ومنها قوة القضية المحكمة المطلقة بالنسبة للاحكام الجزائية. وقد حددت المادة /304/ من قانون اصول المحاكمات المدنية مدى ارتباط القاضي المدني بالحكم الجزائي فنصت على ما يلي:
"لا يرتبط القاضي المدني بالحكم الجزائي الا في الوقائع التي فصل فيها هذا الحكم وكان فصله فيها ضروريا." (راجع حول هذا الموضوع تفصيلا، كتابنا، القانون القضائي الخاص، طبعة ثانية 1987، بند 815 وما يليه). فالقضية المحكمة تعتبر عنوانا للحقيقة Res judicata pro veritate habetur.
وهذا المبدأ المعتمد في قانون اصول المحاكمات المدنية مطبق ايضا من قبل الاجتهاد الاداري الذي اقتسبه عن الحق الخاص (راجع مقالة جوزيف زين الشدياق في المجموعة الادارية لعام 1964، مشار اليها سابقا). والمشاكل التي يمكن ان تنجم عن تطبيق هذا المبدأ تستدعي البحث في الشروط الواجب توفرها في الحكم الجزائي لإعمال المبدأ (القسم الأول) ثم في مدى تقيد القاضي الاداري بالحكم الجزائي (القسم الثاني).
القسم الاول
شروط تقيد القاضي الاداري
بالحكم الجزائي
ان الملاحقة الجزائية يمكن ان تنتهي الى احدى النتائج التالية:
1- اما ان تقرر النيابة العامة حفظ الاوراق اذا اتضح لها ان الفعل لا يؤلف جرما او لا دليل عليه (المادة 50 أ.م.ج. )
2- اما ان يقرر قضاء التحقيق – قاضي التحقيق او الهيئة الاتهامية – منع المحاكمة اذا ارتأى ان الفعل لا يؤلف جرما او لا دليل عليه (المادة 131 أ.م.ج. ) .
3- اما ان يصدر حكم عن قضاء الحكم: بالتجريم والقضاء بالعقوبة بحق الفاعل (المادة 206 والمادة 322 أ.م.ج.)
بالبراءة عند انتفاء الادلة او عدم كفايتها او بعدم المسؤولية او ابطال التعقبات اذا كان الفعل لا يؤلف جرما او لا يستوجب عقابا (المادة 322 والمادة 203 أ.م.ج.).
فما هي الآثار التي تنجم عن هذه النتائج التي تقترن بها الملاحقة الجزائية على المراجعة الادارية؟
لا بد هنا من التفريق بين قرارات النيابة العامة وقررارات قضاء التحقيق من جهة وبين الاحكام التي تصدر عن قضاء الحكم من جهة ثانية.
اولا: في قرارات النيابة العامة وقرارات قضاء التحقيق
ان قرار النيابة العامة بحفظ الاوراق هو قرار مؤقت، وأية ذلك انه يمكن للنيابة العامة في كل وقت ان ترجع عن هذا القرار وتعاود الملاحقة اذا لم يسقط الجرم بمرور الزمن او بالعفو العام.
واكثر من ذلك يحق للمدعي الشخصي، بالرغم من قرار الحفظ الذي تتخذه النيابة العامة، ان يدعي بالجرم ذاته وبحق المدعي عليه امام قاضي التحقيق او المحكمة.
ومن الطبيعي والحال كذلك ان لا يكون لقرار النيابة العامة بالحفظ اي تاثير على المراجعة الادارية اذ يعود لمجلس الشورى ان يبحث في المراجعة الادارية المرفوعة لديه دون ان يكون مقيدا بما ورد في قرار الحفظ الذي اتخذته النيابة العامة.
اما بالنسبة لقرارات قضاء التحقيق بمنع المحاكمة فانها ايضا ذات صفة مؤقتة اذ انها تبقى معلقة على ظهور ادلة جديدة بحيث اذا ظهرت مثل هذه الادلة يمكن معاودة التحقيق مجددا واتخاذ القرار المناسب الذي يحتمله وصف الفعل بعد ظهور هذه الادلة وذلك بالرغم من القرار السابق بمنع المحاكمة.
والنتيجة المترتبة على ذلك انه لا يكون لقرارات قضاء التحقيق بمنع المحاكمة اي تاثير على المراجعة الادارية المرفوعة لديه دون ان يكون مقيدا بما ورد في قرار منع المحاكمة سواء لجهة الوقائع الواردة في هذا القرار او لجهة النتائج المستخلصة منها.
يراجع
قرار مجلس الشورى رقم 110، تاريخ 12/11/1971، نعمان حمادة/ الدولة – وزارة الداخلية، المجموعة الادارية والتشريع، لصاحبها جوزف زين الشدياق/ عام 1972، ص25 حيث ورد:
"وبما انه لا ينجم عن ادعاء النيابة العامة ولا عن قرارات قاضي التحقيق اية قوة ملزمة لا فيما يتعلق بالوقائع ولا فيما يتعلق بالنتائج المستخلصة منها..."، وكذلك قرار مجلس الشورى رقم 187، تاريخ 27/06/1969، ف.ع. عريف في الشرطة/ الدولة، المجموعة الادارية والتريع، 1969، ص196/ 197،
C.E. 17 Juin, 1959, Rec. Leb P. 266;
C.E. 24 Fev., 1956, Rec Leb., p.735.
والمبدأ ذاته معتمد امام القضاء المدني يراجع:
محكمة استئناف جبل لبنان، الغرفة الاولى، قرار رقم 9، تاريخ 7 كانون الثاني 1963، النشرة القضائية اللبنانية، ص756، حيث ورد في هذا القرار:
" ان القرارات التي تصدر عن القضاة المولجين بالتحقيق هي مجردة عن اية قوة محكمة..."
وهذا المبدأ المعتمد من قبل القضاء الاداري والمدني هو سليم ويتفق مع ما نص عليه قانون اصول المحاكمات المدنية فيما يتعلق بقوة القضية المحكمة التي يتمتع بها الحكم الجزائي وآية ذلك ان قرارات الحفظ التي تصدر عن النيابة العامة وقرارات منع المحاكمة التي تصدر عن قضاء التحقيق، بالاضافة الى انها ذات صفة مؤقتة، فانها لا تعتبر حكما بالمعنى المقصود في المادة 566/ وما يليها من قانون اصول المحاكمات المدنية، فالحكم وحده يتمتع بقوة القضية المحكمة، وقرارات النيابة العامة وقضاء التحقيق لا تعتبر حكما.
والنتيجة التي نخلص اليها هنا هي ان قرارات النيابة العامة وقرارات قضاء التحقيق لا تتمتع بقوة القضية المحكمة تجاه القضاء الاداري او المدني، لان هذه القوة تقتصر على الاحكام الصادرة عن قضاء الحكم.
ثانيا: في الاحكام الصادرة عن قضاء الحكم
ان هذه الاحكام اما ان تفصل في الاساس واما ان تقتصر على رد الدعوى شكلا او لعدم الصلاحية دون التطرق للاساس.
1- الاحكام التي تفصل في الاساس
ان الاحكام الجزائية الفاصلة في الاساس، والصادرة عن جهة قضائية مختصة تتمتع بقوة القضية المحكمة تجاه القضاء الاداري، وتتساوى في ذلك المحاكم الجزائية العادية والمحاكم الجزائية الاستثنائية كالمحكمة العسكرية.
فاذا احيل شخص امام القضاء الجزائي من اجل مخالفة بناء وصدر حكم بالبراءة، على اعتبار ان الوقائع كما اثبتت لا تشكل مخالفة لقانون البناء، فان مجلس الشورى يتقيد بهذا الحكم عند مراجعته بشان المخالفة ذاتها.
يراجع
قرار مجلس الشورى، رقم 464، تاريخ 5/10/1969، تقلا مخلوف/ بلدية بيروت، المجموعة الادارية والتشريع، 1970، ص19، حيث ورد:
"حيث ان محضر المخالفة الذي يستند اليه الانذار بهدم الخيمة هو ذات المحضر الذي بموجبه احيلت الجهة المستدعية الى القضاء الجزائي.
وحيث ان الحكم الجزائي النافذ يعقل القضاء المدني بما فيه الاداري ويكون الانذار بالهدم لهذه الجهة في غير محله القانوني لعدم وجود مخالفة لقانون البناء".
كذلك ان الحكم الجزائي الصادر عن المحكمة العسكرية يتمتع بقوة القضية المحكمة تجاه القضاء الاداري.
يراجع:
قرار مجلس الشورى، رقم 126، تاريخ 29/12/1971، ورثة المرحوم حنا حيدر/ الدولة، المجموعة الادارية، 1972، ص79، 80.
قرار مجلس الشورى، رقم 140، تاريخ 25/11/1970، مرتا القزي/ الدولة، وزارة الدفاع، المجموعة الادارية، 1971، ص 184.
قرار مجلس الشورى، رقم100، تاريخ 13/10/1970، فارس ابو المنى، الدولة، وزارة الداخلية، المجموعة الادارية 1972، ص36.
قرار مجلس الشورى، رقم 920، تاريخ 9/8/1968، حاتم، ج108، ص35.
قرار محكمة استئناف جبل لبنان، رقم318، عام1968، حاتم، ج85، ص61.
والنتيجة التي نخلص اليها هي ان الحكم الجزائي الفاصل في اساس الدعوى يقيد القضاء الاداري والمدني.
2- الاحكام التي تقتصر على رد الدعوى شكلا او لعدم الصلاحية.
ولكن ماذا لو اقتصر الحكم الجزائي على رد الدعوى شكلا او لعدم الصلاحية؟
لم نعثر على اي اجتهاد صادر عن القضاء الاداري بهذا الموضوع، ولكن القضاء العدلي تطرق اليه وانتهى الى نتيجة تقول ان الحكم القاضي برد الدعوى شكلا او لعدم الصلاحية لا يحوز قوة القضية المحكمة.
يراجع:
محكمة استئناف بيروت، قرار رقم 916، تاريخ 13/6/1968، النشرة القضائية 1968، ص537.
حكم القاضي المنفرد في بيروت، رقم 352، تاريخ 23 شباط 1970، العدل 1970، ص 342.
اننا نعتبر هذه الوجهة غير سليمة اذ ان النص ورد مطلقا على ان يكون "للحكم حتما قوة القضية المحكمة)" دون تفريق بين الاحكام الفاصلة في الاساس والاحكام القاضية برد الدعوى شكلا او لعدم الصلاحية، واننا نرى ان الوجهة السليمة هي ان ينظر لهذا الموضوع من زاوية مدى تقيد القاضي الاداري او المدني بالحكم الجزائي وهذا ما سنعالجه في القسم الثاني من هذه الدراسة.
القسم الثاني
مدى تقيد القاضي الاداري
بالحكم الجزائي
ان الحكم الجزائي يتضمن مبدئيا فقرة حكمية واسباب تعليل، فهل ان القاضي الاداري يتقيد بكل ما يرد في هذا الحكم ام فقط ببعض ما يرد فيه؟
اجاب مجلس الشورى على هذا السؤال بقوله ان القاضي الاداري يتقيد "بالفقرة الحكمية واسباب الحكم المرتبطة بها والتي تؤلف مرتكزا ضروريا لها، اما الاسباب التي ترد في الحكم الجزائي والتي لا يكون لها تاثير على العناصر المذكورة فلا تكتسب قوة القضية المحكمة وليس ما يمنع اعادة بحثها لدى القضاء المدني الاداري.
يراجع
قرار مجلس الشورى رقم 151، تاريخ 15/2/1966، موسى زغيب ورفاقه/ بلدية كفرذبيان، المجموعة الادارية 1966، ص73/ 14، وقراره رقم 4، تاريخ 9/1/1962، شركة التسليف/ الدولة، المجموعة الادارية 1962، ص3.
والمبدأ ذاته معتمد امام القضاء المدني.
يراجع:
قرار محكمة التمييز رقم 45، تاريخ 25/3/1969، النشرة القضائية 1970، ص768، وقرارها رقم 12، تاريخ 23/1/1968، النشرة القضائية، عام 1968، ص413.
الدكتور عاطف النقيب "اثر القضية المحكوم بها جزائيا على الدعوى المدنية وعلى الدعوى العامة".
فما هي اسباب الحكم المرتبطة بالفقرة الحكمية والتي تؤلف مرتكزا ضروريا لها ؟ وما هي اسباب الحكم التي لا تعتبر ضرورية للفصل بالدعوى العامة؟
1- الاسباب الضرورية للفصل بالدعوى العامة.
ان الدعوى العامة عندما تعرض امام قضاء الحكم اما ان تنتهي بالادانة واما ان تنتهي بالبراءة او بعدم المسؤولية او بابطال التعقبات ولا بد لقاضي الحكم ان يبين الاسباب الضرورية التي حتمت عليه الانتهاء الى احدى هذه النتائج.
وهذه الاسباب الضرورية تتعلق مبدئيا بالواقائع المادية واستثباتها وبالوصف القانوني لتلك الوقائع. فاذا انتهى الحكم الجزائي الى الادانة لا بد ان يكون قد تثبت من وقائع معينة واخلع على هذه الوقائع وصفا جزائيا معينا وعندها يكون القاضي الاداري مقيدا بهذه الوقائع والوصف المعطى لها.
يراجع:
قرار مجلس الشورى رقم 254، تاريخ 24/12/1969، النشرة القضائية 1970، ص268، حيث ورد:
" ان ما ورد في الحكم الجزائي من انه في مدرسة بشمزين-الزراعية...
واثناء اوقات الدوام تشاجر المدعى عليه مع تلميذ اخر فقذف هذا التلميذ بحصى اصابت خطا المستدعي فتعطل عن العمل اسبوعا واصيب بعطل نسبي دائم قدره 15% من قوة العين البصرية (فان هذه الاسباب) تسري على الكافة وتقيد مجلس الشورى".
وكذلك اذا تثبت الحكم الجزائي من حصول وقائع معينة ونسبتها الى شخص معين ثم اخلع على هذه الوقائع وصفا معينا متمثلا بالخطأ فان ذلك يقيد القضاء الاداري.
يراجع:
قرار مجلس الشورى رقم 100، تاريخ 13/10/1971، فارس عباس ابو المنى/ الدولة، المجموعة الادارية 1972، ص36.
كما انه اذا نفى القاضي الجزائي وجود الخطأ فانه لا يبقى بإمكان القاضي الاداري ان يرتب مسؤولية على السلطة على اساس الخطأ الذي تقوم عليه المسؤولية الجزائية. ولكن اذا كانت مسؤولية السلطة العامة يمكن ان تقوم على اساس آخر غير الخطأ الجزائي، الذي نفاه الحكم الجزائي، فهل يجوز لمجلس الشورى ان يبحث في هذه المسؤولية؟
ان الجواب هو بالايجاب طالما ان القاضي الاداري ليس ملزما ببحث الخطأ بالشكل والوصف اللذين عرض فيهما امام القاضي الجزائي، بل انه يبحث مسؤولية السلطة العامة على اساس آخر، كما لو بحث هذه المسؤولية من زاوية الخطأ الاداري المستقل عن الخطأ الجزائي.
يراجع:
قرار مجلس شورى الدولة رقم 43، تاريخ 29/6/1944، عامر/الدولة، النشرة القضائية، ج5، مجموعة قرارات مجلس الشورى، ص384.
والقضية الصادر فيها هذا القرار تتعلق بحكم جزائي نفى المسؤولية الجزائية عن سائق سيارة شحن خصوصية تسبب بقتل احد الافراد بنتيجة طريق اهملت وزارة الاشغال العامة امر صيانتها، فطرحت مسؤولية السلطة العامة امام القضاء الاداري من زاوية مسؤولية الاشخاص الآخرين ومسؤولية السلطة بسبب انهيار الطريق الناتج عن قلة مناعتها وعدم الاسراع الى تقوية حائطها بعد حصول الامطار الغزيرة.
كما اننا نعتبر، تطبيقا للمبدأ ذاته، ان نفي الخطأ جزائيا عن الموظف لا يمنع من بحث مسؤولية السلطة العامة على اساس تبعة المخاطر.
اما اذا انتهى الحكم الجزائي الى البراءة، فانه لا بد ان يكون قد بين الاسباب التي اعتمدها للحكم بالبراءة. فاذا بني الحكم الجزائي على نفي حصول الوقائع اصلا او على قطع الرابطة السببية بين فعل او خطأ الموظف والضرر فان هذه الاسباب تقيد القاضي الاداري.
اما اذا بني الحكم الجزائي بالبراءة على الشك، فقد اعتبر مجلس شورى الدولة الفرنسي ان القاضي الاداري لا يتقيد بهذا الحكم.
يراجع:
C.E. 11 mai, 1950, Rec. Leb. P200.
اما مجلس الشورى اللبناني فقد اعتبر انه عندما يصدر الحكم الجزائي نافيا حصول واقعة ما للشك في حصولها فان هذا الشك يظل قائما تجاه القاضي الاداري الذي لا يمكنه هو ايضا ان يحكم الا بناء على اليقين ما لم يتبين له امر راهن، لم يجر التطرق اليه، ينفي هذا الشك.
يراجع:
قرار رقم 920، تاريخ 9/7/1968، المجموعة الادارية 1968، ص193, وقرار رقم108، تاريخ19/1/1968، المجموعة الادارية 1968، ص105.
والنتيجة التي نخلص اليها هي ان الفقرة الحكمية والاسباب الضرورية التي ارتكزت عليها تتمتع تجاه القضاء الاداري بقوة القضية المحكمة.
ويبقى علينا ان نحدد الاسباب غير الضرورية للفصل بالدعوى العامة.
2- الاسباب غير الضرورية للفصل بالدعوى العامة.
قلنا ان هذه الاسباب لا تقيد القاضي الاداري او المدني.
وان هذه الاسباب، كما يمكن استخلاصها من خلال استعراض الاجتهاد الاداري، تتعلق غالبا بتحديد المسؤولية ونسبة توزيعها وتحديد التعويضات الشخصية التي تحكم بها المحاكم العدلية كما يمكن ان تعرض في صور اخرى.
ان الحكم الصادر عن القضاء الجزائي قد يفصل في الدعوى العامة وفي الدعوى المدنية التي تقام تبعا لها اذا كانت الاصول المطبقة امامه تسمح باقامة الدعوى المدنية تبعا لدعوى الحق العام.
وفي هذه الحالة يتضمن هذا الحكم فقرة حكمية ذات شقين: شق يتعلق بالدعوى المدنية وشق يتعلق بالدعوى العامة، كما انه يتضمن عادة اسباب تعليل تكون مرتكزا لهذه الفقرة الحكمية بشقيها. فالشق المدني من الفقرة الحكمية واسباب التعليل المرتبطة بها، لا يقيدان القاضي الاداري الا اذا تحققت ذاتية المتداعين وذاتية السبب وذاتية الموضوع، لان الحكم المدني لا يحوز قوة القضية المحكمة الا اذا تحققت هذه الشروط الثلاثة، وطالما ان الدولة لا تمثل في المحاكمة الجزائية فان احد الشروط يكون غير متوفر وبالتالي يكون القضاء الاداري غير مقيد بالفقرة الحكمية المدنية واسباب التعليل المرتبطة بها.
فاذا حدد الحكم الصادر عن القضاء الجزائي التعويضات الشخصية المترتبة للمتضرر تجاه الموظف صاحب الفعل الضار فان هذا التحديد لا يلزم مجلس الشورى الذي يعود له ان يحدد التعويض المتوجب على السلطة العامة تجاه المتضرر عند مقاضاتها عن خطأ او فعل الموظف.يراجع:
قرار مجلس الشورى رقم 357، تاريخ 20/3/1961، المجموعة ادارية 1961، ص139.
كما ان ما يرد في الحكم الجزائي من تحديد وتوزيع للمسؤولية المدنية لا يقيد القاضي الاداري.
يراجع:
قرار مجلس الشورى 140، تاريخ 25/11/1970، المجموعة الادارية 1971، ص184، وقرار رقم 101، تاريخ 8/4/1969، البير سعادة/ الدولة، المجموعة الادارية 1969، ص22.
قرار مجلس الشورى رقم 100، تاريخ 13/10/1971، فارس عباس ابو المنى الدولة- الداخلية، المجموعة الادارية 1972، ص36، حيث ورد:
" وبما ان الاحكام الصادرة عن المحاكم الجزائية العسكرية لا تتمتع في كل حال بقوة القضية المحكمة فيما يتعلق بتحديد المسؤولية المدنية ذلك لانه من جهة ليس هذا التحديد عنصرا من عناصر الجريمة التي يعود للمحاكم الجزائية استثباتها لاستثبات حصول الجرم ومن جهة اخرى لان دعوى الحقوق الشخصية لا ترفع لدى المحاكم العسكرية ولا يمثل المتضرر لديها كفريق بهذا الخصوص".
ان هذا القرار اعتمد كما نرى حججا ثلاث لعدم تمتع البيان، الذي يحدد نسبة مسؤولية مسبب الضرر المدنية، بقوة القضية المحكمة تجاه القضاء الاداري ، وهذه الحجج هي:
1- ان تحديد المسؤولية المدنية ليس ضروريا للفصل بالدعوى العامة.
2- ان المحكمة العسكرية لا تبحث في دعوى الحقوق الشخصية.
3- ان المتضرر لا يمثل في المحاكمة التي تجري امام المحكمة العسكرية.
اننا نعتبر ان الحجة الاولى هي الوحيدة التي يصح اعتمادها، اما الحجتين الثانية والثالثة فلا قيمة لهما، ذلك انه بالنسبة لهاتين الحجتين الاخيرتين نطرح السؤال التالي:
لو كان الحكم صادرا عن محكمة جزائية عادية وصالحة بالتالي للنظر بالدعوى المدنية تبعا لدعوى الحق العام ويمثل المتضرر لديها، هل ان مجلس الشورى يتقيد عندئذ بتحديد وتوزيع المسؤولية المدنية الوارد في الحكم الجزائي؟
اننا نعتبر ان مجلس الشورى يبقى، في هذه الحالة غير مقيد بتحديد وتوزيع المسؤولية المدنية لانه من جهة ليس هذا التحديد والتوزيع ضروريا للفصل بالدعوى العامة ومن جهة ثانية لان الفقرة الحكمية المدنية واسباب التعليل المرتبطة بها لا تحوز قوة القضية المحكمة تجاه الكافة بل فقط عند تحقيق ذاتية المتداعين وذاتية السبب وذاتية الموضوع.
ولعل قرار مجلس الشورى رقم 101 تاريخ 8/4/1969 كان اكثر دقة عندما قال:
" وبما انه في سبيل تحقيق دعوى الحق العام لا ضرورة للبحث في نسبة المسؤولية المدنية بين الصادم والمصدوم بل انه يكفي ان تتثبت المحكمة بان الصادم كان مهملا او غير محترز او غير مراعٍ للنظام فتسبب بالصدم.
البير سعادة/ الدولة، المجوعة الادارية 1969، ص122.
كذلك اذا ورد في حكم جزائي ان عمل الشرطي كان داخلا ضمن اعمال الوظيفة فان هذا القول لا يقيد القاضي الاداري لانه ليس ضروريا للفصل بالدعوى العامة.
يراجع:
قرار مجلس الشورى رقم 151، تاريخ 15/12/1966، مذكور سابقا، حيث ورد:
"وحيث ان ما ورد في القرار التمييزي (الجزائي) ان ضومط كلف باستيفاء الرسوم البلدية لم يكن ضروريا سواء لجهة استثبات الفعل المسند اليه واعطائه الوصف القانوني ام لجهة ادانته فيكون ما اورده القرار المذكور من هذه الجهة غير مكتسب قوة القضية المحكمة ويقتضي البحث مجددا فيما اذا كان فعل الشرطي قد حصل بسبب الوظيفة ام لا".
وبالنتيجة ان كل ما يرد في الحكم الجزائي ولا يكون ضروريا للفصل بالدعوى العامة لا يقيد القاضي الاداري الذي يعود له ان يبحث مجددا في النقطة التي فصلها الحكم الجزائي لينتهي الى النتيجة التي يقدرها، كما ان كل ما يرد في الحكم الصادر عن القضاء الجزائي بخصوص الدعوى المدنية، عندما تقام هذه الدعوى امامه تبعا لدعوى الحق العام، لا يقيد القاضي الاداري الا اذا تحققت ذاتية الموضوع طالما ان الامور المتعلقة بالدعوى المدنية والتي بحثها الحكم الجزائي لم تكن ضرورية للفصل بالدعوى العامة.
وتبقى كلمة اخيرة نقولها بالنسبة للاحكام الجزائية التي تقضي برد الدعوى شكلا او لعدم الصلاحية. ان هذه الاحكام لا تتضمن، في اكثر الحالات، في فقرتها الحكمية والاسباب الملاتبطة بها ما يستثير البحث في اعمال مبدأ القضية المحكمة. ولكن في حالات قليلة يمكن ان يكون للاسباب التي اعتمدها الحكم الجزائي لرد الدعوى شكلا او لعدم الصلاحية تاثير على دعوى المسؤولية المدنية او مسؤولية السلطة العامة، ونعطي هنا المثالين التاليين :
الاولى: يلاحق موظف امام القضاء الجزائي فترد الدعوى شكلا لان الادارة لم توافق مسبقا على الملاحقة.
الثاني: يلاحق موظف امام محكمة جزائية فترد الدعوى لعدم الصلاحية لان بياناً في الحكم اعتبر ان الجرم وقع خارج نطاق اختصاص المحكمة.
فاذا قدم المتضرر مراجعة ادارية لتضرره مثلا من الجرم الذي ارتكبه الموظف او من رفض الادارة اعطاء الموافقة المسبقة على ملاحقة الموظف جزائيا، فهل يكون للحكم الجزائي تاثير على هذه المراجعة؟
اننا نعتبر ان هذا الحكم يقيد القضاء الاداري بالنسبة للاسباب التي اعتمدها وكانت مرتكزا ضروريا لرد الدعوى شكلا او لعدم الصلاحية وآية ذلك انه لا يسع القضاء الاداري ان يبحث مجددا في كون الادارة وافقت او لم توافق على ملاحقة الموظف جزائيا لان هذه النقطة بتها الحكم الجزائي وكانت مرتكزا ضروريا لرد الدعوى شكلا، كما انه لا يسع القاضي الاداري ان يعتبر ان الجرم وقع ضمن نطاق صلاحية القاضي الجزائي بعد ان اعتبر الحكم الجزائي ان الجرم وقع خارج هذا النطاق طالما ان هذا القول كان المرتكز الضروري لرد الدعوى لعدم الصلاحية.
والنتائج التي يمكن استخلاصها بنهاية هذه الدراسة هي:
أولا: أن قرارات النيابة العامة بحفظ الاوراق وقرارات قضاء التحقيق بمنع المحاكمة لا تاثير لها على المراجعة الادارية.
ثانيا: ان احكام المحاكم الجزائية تقيد القاضي الاداري بالفقرة الحكمية الجزائية والاسباب التي كانت مرتكزا ضروريا لها، اما الاسباب التي لم تكن مرتكزا ضروريا لها فلا تاثير لها على المراجعة الادارية.
ثالثا: ان كل ما يرد في الحكم الصادر عن القضاء الجزائي بخصوص الدعوى المدنية، عندما تقام هذه الدعوى امامه تبعا لدعوى الحق العام، لا يقيد القاضي الاداري الا اذا تحققت ذاتية المتداعين، وذاتية السبب (اي الاساس القانوني للمسؤولية)، وذاتية الموضوع، طالما ان الامور المتعلقة بالدعوى المدنية والتي بحثها الحكم الجزائي لم تكن ضرورية للفصل بالدعوى العامة.