الدكتور حلمي محمد الحجار05/12/1994 // مجلة الحياة النيابية
دراسة منشورة في مجلة الحياة النيابية لعام 1994 المجلد الثالث عشر صفحة78
مفاعيل انشاء المجلس الدستوري
1 ـــمبدأ تسلسل القواعد في قانون أصول المحاكمات المدنية: كانت المادة الثانية من قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني الصادر عام\1933\ تنص على ما يلي:
« لا يجوز للمحاكم النظر في صحة أعمال السلطة الاشتراعية ,سواء أكان من جهة انطباق القانين على الدستور أو من جهة انطباق المعاهدات السياسية على قواعد القانون الدولي العام».
وذهب الاجتهاد في ظل النص المتقدم الى أنه يمتنع على المحاكم مراقبة دستورية القوانين ولو عن طريق الدفع.
ثم صدر قانون أصول المحاكمات عام \1983\وأحل النص التالي محل النص السابق:
« على المحاكم أن تتقيد بمبدأ تسلسل القواعد, عند تعارض أحكام المعاهدات الدولية مع أحكام القانون العادي تتقدم في مجال التطبيق الأولى على الثانية»,ثم «لا يجوز للمحاكم أن تعلن بطلان أعمال السلطة الاشتراعية لعدم انطباق القوانين العادية على الدستور أو المعاهدات الدولية» (المادة 2 أ.م.م).
ان النص المتقدم الذي تضمنه قانون أصول المحاكمات المدنية اللبناني الصادر عام 1983 يفرض على المحكم ومن ثم يعطيها الحق أن تطبق القاعدة الأعلى مرتبة وتهمل القاعدة الأدنى في كل مرة تجد أن هناك تعارضا" بين قاعدتين ترعيان المادة المتنازع عليها,وهذه الوجهة تتفق مع الرأي القائل ان المفاضلة بين القواعد وتطبيق القاعدة الأعلى يدخل في صلب الوظيفة القضائية ,لأن تطبيق القانو هو من صميم الوظيفة القضائية الأمر الذي يفرض على القاضي أن يفصل النزاع على ضوء القواعد القانونية التي تنطبق موضوعيا"على المادة المتنازع حولها,وطالما ان الأمر هو كذلك ,اذا وجدت المحكمة أن هناك قاعدتين قانونيتين تنطبقان على المادة المتنازع حولها فيتحتم على المحكمة أن تطبق القاعدة الأعلى مرتبة وتهمل القاعدة الأدنى ,مثلا" اذا وجدت قاعدة يتضمنها نص تشريعي وقاعدة أخرى يتضمنها نص نادر صادر بمرسوم تنظيمي وتتعارض مع القاعدة المستمدة من النص التشريعي فانه من صميم عمل المحاكم أن تفصل النزاع وفق القاعدة مرتبة ومن ثم أن تهمل القاعدة الأدنى مرتبة,وبالتالي ان المبدأ الذي تضمنته المادة\2\ من قانون أصول المحاكمات المدنية الصادر عام \1983\والذي يفرض على المحاكم التقيد بمبدأ تسلسل القواعد يتوافق مع جوهر الوظيفة القضائية,وقد أعطت المادة \2\مثالا"عن التعارض بين أحكام المعاهدات الدولية وبين القانون العادي ,فأوجبت على المحاكم تقديم القاعدة المستمدة من أحكام المعاهدة الدوليةفي كل مرة تتعارض هذه القاعدة مع قاعدة مستمدة من أحكام القانون العادي ومن ثم اهمال القاعدة الأخيرة ,لأنها أدنى مرتبة من الأولى ,الا أن ما ورد في المادة \2\ حول هذا الموضوع هو فقط مجرد مثال بين قاعدتين متعارضتين تختلف مرتبتهما في سلم القواعد القانونية ,وهذا يعني أنه كما يمكن أن يقع التعارض بين قاعدة مستمدة من أحكام معاهدة دولية وقاعدة مستمدة من أحكام القانون العادي فان التعارض يمكن أن يقع أيضا" بين قاعدة مستمدة من مرسوم تنظيمي أو بين قاعدة مستمدة من مرسوم وبين قاعدة مستمدة من قرار اداري, ففي كل مرة يوجد فيها تعارض بين قاعدتين على الشكل المتقدم يفرض مبدأ تسلسل لقواعد تطبيق القاعدة الأعلى واهمال القاعدة الأدنى مرتبة ,ولكن ماذا لو حصل التعارض بين أحكام أي من القواعد القانونية وبين قاعدة مستمدة من النص الدستوري؟
2- التعارض بين قاعدة مستمدة من النص الدستوري و بين قاعدة مستمدة من أي نص اخر – مبدأ تسلسل القواعد يعطي المحاكم حق الرقابة الدستورية عن طريق الدفع: اذا تعارضت قاعدة مستمدة من الدستور مع قاعدة مستمدة من أي نص اخر,فان الصيغة المطلقة التي وردت فيها المادة \2\أ.م.م تفرض على المحاكم تطبيق القاعدة المستمدة من النص الدستوري واهمال القاعدة المستمدة من أي نص اخر،لأن القاعدة المستمدة من النص الدستوري هي الأعلى مرتبة من كل القولعد المستمدة من النصوص الأخرى، ويقتصر عمل المحكمة فقط على تطبيق القاعدة الدستورية دون التعرض لصحة أو عدم صحة القاعدة الأخرى عملا"بنص الفقرة الأخيرة من المادة \2\ أ.م.م ومؤداها أنه «لا يجوز للمحاكم ان تعلن ابطال أعمال السلطة الاشتراعية لعدم انطباق القوانين العادية على الدستور أو المعاهدات الدولية».
ولكن البحث والمفاضلة بين القاعدة المستمدة من النص الدستوري وبين القاعدة المستمدة من أي نص اخر يفترض ضمنا"وحتما" تقويم القاعدة الأخيرة ومدى انطباقها على القاعدة الأولى المستمدة من النص الدستوري، مثلا" اذا وجدت قاعدة مستمدة من نص تشريعي متعارضة مع قاعدة مستمدة من نص الدستور فان المفاضلة بين القاعدتين يعني حتما" مراقبة دستورية القاعدة القانونية لانه عندما تجد المحكمة أن القاعدة القانونية متوافقة مع القاعدة الدستورية فستطبقها في حين أنها اذا وجدت القاعدة القانونية متعارضة مع القاعدة الدستورية فستهملها وتطبق القاعدة الاخيرة، وهذا يعني أن المحكمة أقرت في الافتراض الأول بدستورية القاعدة القانونية وفي الافتراض الثاني بعدم دستوريتها، وبمعنى اخر ان المحكمة راقبت دستورية القاعدة القانونية وان كانت نتائج هذه الرقابة اقتصرت على عدم تطبيق القاعدة القانونية المخالفة للدستور ولم تصل الى حد ابطالها. وهذا وجه من أوجه الرقابة الدستورية معروف بالرقابة عن طريق الدفع، وقد ذهبنا فور صدور قانون أصول المحاكمات المدنية عام 1983 بأن المادة الثانية أعطت المحاكم اللبنانية حق الرقابة على دستورية القوانين عن طرق الدفع فقط.
ولكن ماذا حل بمبدأ تسلسل القواعد ونتيجة العملية، المتمثلة باعطاء المحاكم حق الرقابة الدستورية على القوانين عن طريق الدفع بعد صدور قانون انشاء المجلس الدستوري عام 1993 ؟
3 ـــ انشاء المجلس الدستوري عام 1993: تطبيقا" لوثيقة الوفاق الوطني التي أقرها النواب في الطائف في تشرين الأول من عام\1989\ صدر في لبنان القانون الدستوري رقم \18\تاريخ 21\9\1990 وأقر مبدأ الرقابة الدستورية على القوانين عن طريق الدعوى الأصلية التي تصل الى حد ابطال النص القانوني المخالف للدستورن وبالفعل ان التعديل طال المادة \19\من الدستور فأصبح نصها على الشكل التالي:
«ينشأ مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين ... يعود حق مراجعته في ما يتعلق بمراقبة دستورية القوانين للجهات الاتية:
رئيس الجمهورية ـــرئيس مجلس لنواب ـــ رئيس مجلس الوزراء ـــ عشرة من أعضاء مجلس النواب رؤساء الطوائف المعترف بها قانونيا" في ما يتعلق حصرا" بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وحرية الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني .
تحدد قواعد تنظيم المجلس وأصول العمل فيه وكيفية تشكيله بموجب قانون».
واستنادا" الى النص الدستوري المتقدم صدر قانون انشاء المجلس الدستوري رقم \250\بتاريخ 14\7\1993 وأناطت المادة الأولى منه بهذا المجلس:
«مراقبة دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية». ويقع القانون في أربعة فصول. الفصل الأول يتعلق بتأليف المجلس الدستوري (المواد 2 الى 10) والفصل الثاني يتعلق بالأصول الاجرائية لدى المجلس (المواد\11\الى\17\) والفصل الثالث يتعلق بالرقابة على دستورية القوانين (المواد\18\الى \22\) والفصل الرابع والاخير يتعلق بالنزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية (المواد\23\الى 33\).
ومع اعطاء هذا المجلس حق الرقابة الدستورية على القوانين نزع القانون رقم 250\93 عن المحاكم سلطة الرقابة الدستورية بصورة غير مباشرة على القوانين.
4 ـــ قانون انشاء المجلس الدستوري نزع عن المحاكم سلطة الرقابة غير المباشرة عللى دستورية القوانين عن طريق الدفع عملا" بمبدأ تسلسل القواعد: بعد ان أولت المادة الأولى المجلس الدستوري مهمة مراقبة دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون (راجع البند السابق) انصب الفصل الثالث من القانون على وضع معالم هذه الرقابة وحدودها ومفاعيلها. فعادت الفقرة الأولى من المادة\18\ ونصت على ما يلي:
«يتولى المجلس الدستوري الرقابة على دستورية القوانين وسائر النصوص التي لها قوة القانون»، وبذلك يكون لبنان قد انضم من حيث المبدأ الى فئة الدول التي تقر الرقابة الدستورية على القوانين بصورة مباشرة عن طريق هيئة قضائية خاصة منشأة خصيصا" لهذا الغرض.
ولكن مع إقرار المبدأ المتقدم خطا قانون المجلس الدستوري خطوة الى الوراء بنزعه عن المحاكم سلطة الرقابة الدستورية بصورة غيلا مباشرة، والتي كانت أعطتها اياها المادة \2\ من قانون أصول المحاكمات المدنية الصادر عام \1983\؛ وبالفعل فان المادة \18\ من قانون انشاء المجلس الدستوري، وبعد ان اعطت –في الفقرة الأولى منها - المجلس الدستوري حق الرقابة على دستورية القوانين، عادت وأضافت في الفقرة الثانية منها أنه «خلافا" لأي نص مغاير، لا يجوز لأي مرجع قضائي أن يقوم بهذه الرقابة مباشرة عن طريق الطعن أو بصورة غير مباشرة عن طريق الدفع بمخالفة الدستور أو مخالفة مبدأ تسلسل القواعد والنصوص». كذلك نصت المادة \33\من القانون ذاته أنه «تلغى جميع النصوص المخالفة لأحكام هذا القانون أو التي يتعارض مضمونها مع أحكامه».
وبذلك يكون المبدأ القائل بأن «على المحاكم أن تتقيد بمبدأ تسلسل القواعد»المنصوص عنه في المادة \2\ من قانون أصول المحاكمات المدنية لعام \1983\ قد تعدل جزئيا" بأن استثني منه التعارض بين قاعدة مستمدة من نص الدستور وأية قاعدة قانونية أخرى، اذ في هذه الحالة لا يجوز للمحاكم أن تحترم القاعدة الدستورية وتطبقها على حساب اهمال القاعدة القانونية بل يتوجب عليها تطبيق القاعدة القانونية ولو بدت لها متعارضة مع قاعدة مستمدة من الدستور! أما بقية أوجه تطبيق مبدأ تسلسل القواعد فتبقى على حالها كما وردت في المادة \2\ من قانون أصول المحاكمات المدنية، بمعنى أنه عند التعارض بين قاعدة مستمدة من أحكام معاهدة دولية وقاعدة مستمدة من أحكام قانون عادي أو مرسوم تنظيمي أو عند التعارض بين أحكام قاعدة مستمدة من قانون عادي وبين قاعدة مستمدة من أحكام مرسوم تنظيمي أو عند التعارض بين قاعدة مستمدة من مرسوم وبين قاعدة مستمرة من قرار اداري، يبقى للمحاكم في الحالات المتقدمة ويتوجب عليها أن تحترم مبدأ تسلسل القواعد وتطبق القاعدة الأعلى مرتبة وتهمل القاعدة الأدنى.
ولكن هل أن اقرار مبدأ الرقابة الدستورية على القوانين ونزع سلطة المحاكم في الرقابة عن طريق الدفع،
كما ورد في قانون انشاء المجلس الدستوري، يحقق على وجه أفضل الغاية المتوخاة أصلا" من مبدأ الرقابة الدستورية على القوانين، وفقا" لما قصده التعديل الدستوري الصادر بالقانون رقم 18\90 تطبيقا" لوثيقة الوفاق الوطني التي أقرها النواب في الطائف عام 1989 ؟.
5 ـــ تقويم حصر الرقابة الدستورية بالمجلس الدستوري ونزعها عن المحاكم: اذا كان التعديل الدستوري الصادر في لبنان عام 1990 أقر مبدأ الرقابة الدستورية على القوانين فان قانون انشاء المجلس الدستوري الصادر بالقانون رقم 250\93 قد حد من فعالية هذه الرقابة في الأوجه التالية:
نزع عن المحاكم سلطة الرقابة غير المباشرة عن طريق الدفع تطبيقا" لمبدأ تسلسل القواعد.
2 ـــ قيد مراجعة المجلس الدستوري للطعن بعدم دستورية القوانين بمهلة معينة حددها في الفقرة الثالثة من المادة \19\ منه التي نصت على ما يلي:
«تقدم المراجعة من قبل المرجع المختص الى رئاسة المجلس الدستوري خلال مهلة خمسة عشر يوما" تلي نشر القانون في الجريدة الرسمية أو في إحدى وسائل النشر الأخرى المعتمدة قانونا" ,تحت طائلة رد المراجعة شكلا"».
اعتبر أن عدم بت المجلس الدجستوري بالمراجعة خلال المهلة المعينة في القانون بمثابة موافقة ضمنية على دستورية القانون موضوع المراجعة، وبالفعل نصت المادة \20\من القانون على ما يلي:
«فور تسجيل المراجعة في قلم المجلس... يقوم الرئيس بتبليغ نسخة عن المراجعة الى أعضاء المجلس ويعين مقررا" من الأعضاء. على المقرر أن يضع تقريره ويقدمه الى المجلس خلال مهلة أقصاها عشرة أيام من تاريخ ابلاغه قرار تعيينه»... وأضافت المادة \21\ «فور جهوز تقرير العضو المقرر يلتئم المجلس الدستوري في مقره ويتذاكر في القضية ويصدر قراره بشأنها خلال مهلة خمسة عشر يوما"وذلك في جلسة يعقدها في مقره.
اذا لم يصدر القرار ضمن المهلة المذكورة، يعتبر النص موضوع المراجعة مقبولا"».
وأساسا" ان النص الجديد للمادة \19\من الدستور حصر حق مراجعة المجلس الدستوري بجهات رسمية حددها وبرؤساء الطوائف فيما يتعلق بقوانين الأحوال الشخصية ، أما الأفراد العاديون والنقابات وبقية الأشخاص المعنويين فلا يجوز لهم مراجعة المجلس الدستوري.
ولكن الواقع أن مخالفة قاعدة قانونية معينة للنص الدستوري يظهر أكثر ما يظهر عند التطبيق، بمعنى أنه يمكن أن يصدر قانون معين ولا ينتبه أحد لاحتوائه على أحكام مخالفة للدستور الا أنه بعد نشر القانون وخلال تطبيقه على حالات معينة، قد تكون أحيانا" مستجدة لاحقا"بعد نشر القانون، يمكن أن يظهر أن قاعدة معينة تضمنها القانون مخالفة للدستور وتضر بفئة من الأشخاص وعندها لا يعود بامكان أحد أن يطعن بعدم دستورية القانون حتى الأشخاص الذين عددتهم المادة \19\ الجديدة من الدستور، وهذا يعني أنه سيتكرس نص قانوني مخالف للدستور وتكون المحاكم ملزمة بتطبيقه لأنه لم يعد من الجائز أن تهمله وتطبق النص الدستوري تطبيقا" لمبدأ تسلسل القواعد. أكثر من ذلك أن جميع النصوص القانونية الصادرة قبل انشاء المجلس الدستوري والتي صدرت قبل تأليفه لا يمكن أن تخضع لأي مراجعة حتى من الأشخاص المحددين في المادة \19\ الجديدة من الدستور طالما أن المراجعة يجب أن تقدم خلال \15\يوما" تلي نشر القانون.
وبكل الأحوال ان الهدف من الرقابة الدستورية هو المحافظة على مبدأ سمو الدستور وابقاء التشريع متوافقا"مع النص الدستوري، فاذا لم يطعن أحد من الجهات المعنية في المادة \19\ بنص قانوني مخالف للدستور أو اذا انقضت المهلة دون تقديم المراجعة فمعنى ذلك تكريس وضعية قانونية مخالفة للدستور، في حين أن سلطة المحاكم بالرقابة الدستورية على القوانين، ولو عن طريق الدفع، كان من شأتها لو لم تلغ بالقانون رقم 250\93 أن تحول دون المحاذير المحكى عنها.