الدكتور حلمي محمد الحجار23/12/1996 // المجلة اللبنانية للتحكيم العربي والدولي
مؤتمر بيروت حول التحكيم العربي والدولي المنعقد في بيـروت في حرم جامعة بيروت العربية، بيـن 18 و 19 كانون الأول 1996
الحلقة الثانية: اختيار المحكمين
حرية الخصوم في اختيار المحكمين في القانون اللبناني
بقلم الدكتور حلمي محمد الحجار
منشورة في المجلة اللبنانية للتحكيم العربي والدولي
العدد الثالث، 1996 صفحة 36
مقدمة:
1- تعريف - اختيار المحكم ومبدأ سلطان الارادة: يعني اختيار المحكم من قبل الخصوم، ان الخصوم يقومون بانفسهم باختيار قاضيهم، بحيث يصبح اختيار القاضي مشمولا بمبدأ سلطان الارادة. ولعل هذا اكثر ما يميز المحاكمة التحكيمية عن المحاكمة امام القاضي العادي.
فاذا كان مبدأ سلطلان الارادة يجد له بعض التطبيقات امام القضاء العادي نظير ربط علاقة المحاكمة وتحديد اطار الدعوى وسببها وموضوعها ووسائل اثباتها ومتابعتها او لتنازل عنها وسلوك طرق الطعن او الرضوخ للحكم... واذا كانت المسائل المتقدمة تخضع لمبدأ سلطان الارادة في المحاكمة امام القضاء العادي وفي المحاكمة التحكيمية على السواء، الا ان اهم ما يميز المحاكمة التحكيمية عن المحاكمة امام القضاء العادي يكمن في سلطان الخصوم في اختيار الهيئة الحاكمة، ففي المحاكمة امام القضاء ينعدم دور مبدأ سلطان الارادة في اختيار القضاة. اذ ان المحاكم منظمة ومؤلفة بموجب القانون، والاختصاص بين المحاكم والهيئات الحاكمة فيها محدد ايضا بموجب القانون، بحيث لا يكون للخصم اي دور في اختيار قضاته، بل عليه ان يتقدم بالدعوى امام الهيئة الحاكمة التي خولها القانون فصل النزاع تبعاً لنوع هذا النزاع وموضوعه.
اما في المحاكمة التحكيمية فيلعب مبدأ سلطان الارادة دورا اهم بحيث يبقى اختيار المحكم او الهيئة الحاكمة في المحاكمة التحكيمية مشمولا ايضا بمبدأ سلطان الخصوم على المحاكمة الذي يعتبر تطبيقا لمبدأ سلطان الارادة، من هنا تبرز اهمية دور اختيار الخصوم للمحكم او المحكمين في المحاكمة التحكيمية.
2- تكريس مبدأ اختيار المحكمين من قبل الخصوم في القانون اللبناني: كان القانون اللبناني يشير دوما الى حرية الخصوم في اختيار المحكمين.
فمجلة الاحكام العدلية التي كانت مطبقة في لبنان ايام السلطنة العثمانية كانت تنص على التحكيم كطريق لحل النزاعات بين الخصوم، وكانت تبرز هذا الدور للخصوم ولمبدأ سلطان الارادة في اختيار الهيئة الحاكمة، وبالفعل نصت المادة/1790/ من المجلة على ما يلي: « التحكيم هو اتخاذ الخصمين برضاهما حاكما يفصل خصومتهما و دعواهما»
وعندما صدر اول قانون لاصول المحاكمات المدنية في لبنان عام 1933 ابقى على التحكيم (المواد 821 الى 849) وكذلك فعل قانون اصول المحاكمات المدنية اللبناني الجديد الذي صدر عام 1983 بموجب المرسوم الاشتراعي رقم/90/، اذ ابقى على التحكيم كطريق من طرق حل النزاعات سواء على الصعيد الداخلي (المواد 762 الى 808) او على الصعيد الدولي (809 الى 821) ومن ثم كرس حرية الخصوم في اختيار المحكم او المحكمين.
3- خطة البحث: ان مسالة حرية اختيار المحكم من قبل الخصوم، تطرح التساؤل عن مدى تلك الحرية بمعنى هل هي حرية مطلقة او تبقى مقيدة بضوابط وحدود يفترض بالخصوم مراعاتها؟ (الفقرة الاولى)
كما تطرح للتساؤل كيفية ممارسة الخصوم لحرية اختيار المحكم، وهل يمكن ان تعترضهم عقبات او صعوبات تمنعهم من ممارسة تلك الحرية (الفقرة الثانية) .
الفقرة الاولى: مدى حرية الخصوم في اختيار المحكمين
4 - حرية الخصوم في اختيار المحكم او المحكمين باشخاصهم – ضرورة ان يكون المحكم شخصا طبيعيا: يفرض القانون اللبناني حاليا ان يكون المحكم المختار من قبل الخصوم شخصا طبيعيا، وتبعاً لذلك نص صراحة على انه لا تولي مهمة التحكيم لغير شخص طبيعي (المادة 768 أ.م.م.)، ويبدو ان القانون اللبناني ياخذ بعين الاعتبار الثقة التي يجب ان تتوفر عند الخصوم حيال شخص المحكم، وتتطلب الثقة ان يكون المحكم شخصا طبيعيا محددا حتى يكون هذا الشخص معروفا من الخصوم.
ولكن رغم ان القانون اللبناني حصر ايلاء التحكيم بالشخص الطبيعي الا انه سمح، بالرغم من ذلك بايلاء مهمة تنظيم التحكيم الى شخص معنوي.
5- مدى حرية الخصوم في اختيار المحكم عند ايلاء شخص ثالث او شخص معنوي مهمة تنظيم التحكيم: رغم ان القانون اللبناني نص صراحة على انه لا تولى مهمة التحكيم لغير شخص طبيعي، الا انه اضاف امكانية اختيار شخص ثالث او اختيار شخص معنوي لتنظيم التحكيم (المادة 768 والمادة 772 أ.م.م.) ومن ثم يمكن ان يقتصر اختيار الخصوم في بادئ الامر على تسمية شخص طبيعي ثالث او شخص معنوي على تنظيم التحكيم، وعندها لا يصح ان يقوم هذا الشخص بنفسه بمهمة المحكم، اذ تقتصر مهمته فقط على تنظيم التحكيم.
والشخص المعنوي الذي يصح ان يعهد اليه بتنظيم التحكيم يمكن ان يكون جمعية او مركزا او مجلسا للتحكيم – ولكن يمكن ايضا ان يعهد بتنظيم التحكيم الى اي شخص معنوي آخر، كالشركات المدنية المنشاة لممارسة مهنة المحاماة. وهنا لا بد من الاشارة الى ان قانون اصول المحاكمات اللبناني الجديد الصادر عام 1983 نص على انشاء سجل خاص بالشركات المدنية لدى قلم الغرفة الابتدائية في محكمة الدرجة الاولى الناظرة بالقضايا المدنية (المادة 1025 أ.م.م. )، ومن ثم يمكن ان يعهد الى مثل تلك الشركات بتنظيم التحكيم.
6 - حرية اختيار الخصوم في تحديد عدد المحكمين: ترك القانون اللبناني للخصوم حرية اختيار وحدة او تعدد المحكمين، فاجاز لهم ان يختاروا محكما واحدا او عدة محكمين لحل النزاع، واشار القانون اللبناني الى ذلك في عدة مواد (المواد 763/2، 764/1، 765/1، 766، 771، 772، 788، 791).
وهذا يعني ان المحكمة التحكيمية يمكن، وبناء لاختيار الخصوم، ان تتالف من محكم فرد واحد او من عدة محكمين، على غرار محكمة الدرجة الاولى في لبنان التي تقسم الى غرف ابتدائية يتعدد فيها القضاة والى اقسام يتولاها قضاة منفردون.
ولكن متى اختار الخصوم مبدأ تعدد المحكمين فقد فرض القانون اللبناني ان يكون عدد المحكمين وترا، وهذا ينسجم مع اعتبار الهيئة التحكيمية مماثلة للمحاكم القائمة في الدولة والتي يكون عددها وترا عند تعدد القضاة فيها بشكل يسمح بصدور القرار بالاكثرية عند تعذر الاجماع، وهذا ما اشار اليه القانون اللبناني بالنسبة للهيئة التحكيمية المؤلفة من عدة محكمين، اذ نص على انه في حال تعدد المحكمين يصدر القرار باجماع الآراء أو بغالبيتها.
ولا شك ان تعدد المحكمين يحقق عدة فوائد:
الفائدة الاولى: يسمح لكل خصم ان يعين محكما من قبله.
الفائدة الثانية: يسمح بتنوع الاختصاصات ضمن المحكمة التحكيمية بشكل يسهل معه فصل النزاع، فقد تستوجب طبيعة النزاع الاستعانة باشخاص اخصائيين في حقول علمية معينة، ويمكن عندها ان يكون واحدا من بين المحكمين اخصائيا في هذا المجال.
وهذا التنوع في اختصاص اعضاء المحكمة الواحدة نجده احيانا حتى في القضاء العادي بحيث تضم هيئة المحكمة احيانا اعضاء من غير القضاة، مثلا مجلس العمل التحكيمي في لبنان الذي ينظر في النزاعات بين ارباب العمل والعمال، يتالف من قاض رئيس وممثل عن ارباب العمل وممثل عن العمال وهما ليسا من القضاة ولا يشترط ان يكون اي منهما من رجال القانون.
الفائدة الثالثة: ان تعدد المحكمين يمكن ان يعطي ثقة وضمانة اكبر للخصومة، اذ ياتي القرار التحكيمي نتيجة مداولة بين عدة محكمين يمكن ان يفيد ويستفيد كل منهمن من علم الاخرين ومعارفهم.
ولكن هل ان القانون اللبناني فرض شروطا معينة يجب ان تتوافر في شخص المحكم او المحكمين من شانها ان تحد من حرية اختيار الخصوم؟
7- حدود حرية اختيار الخصوم للمحكم او المحكمين بالنسبة للشروط او الصفات العلمية الواجب توفرها في شخص المحكم: نص الدستور اللبناني على مبدأ المساواة بين المواطنين وتمتعهم بالحقوق المدنية والسياسية (المادة 7 من الدستور).
وهذا يفرض ان يكون من حق الجميع تولي مهمة التحكيم ضمن حدود احكام القوانين النافذة. وتبعاً لذلك لم يضع قانون اصول المحاكمات المدنية شروطا يفترض ان تتوفر في شخص المحكم من اجل صحة اختياره من قبل الخصوم. الا ان القانون اللبناني نص على بعض الموانع التي تحول دون ايلاء الشخص مهمة التحكيم، فاعتبر انه «لا يجوز ان يكون المحكم قاصرا او محجورا عليه او محروما من حقوقه المدنية او مفلسا ما لم يرد له اعتباره». (المادة 768/2).
ومن ثم يصح ان يتم اختيار اي شخص طبيعي، ضمن حدود الموانع المذكورة، للقيام بمهمة المحكم لا فرق بين الذكر والانثى، او بين الوطني والاجنبي.
ولكن لا بد من تسجيل ملاحظة هنا تتعلق بحرية اختيار شخص المحكم او المحكمين دون التقيد باية شروط لجهة الكفاءة العلمية. فمهمة المحكم مماثلة لمهمة القاضي، ومن ثم يفترض ان تتوفر عند المحكم كفاءة القاضي او «صلاحيته للقضاء» كما جاء في شرح سليم باز للمادة /1790/ من مجلة الاحكام العدلية.
وتبعاً لذلك نعتقد انه من الافضل ان يفرض القانون شرطاً يتعلق بالكفاءة العلمية موازية للكفاءة العلمية المطلوبة من القاضي على الاقل بالنسبة لاحد المحكمين عند تعددهم، وبالنسبة للنزاعات التي تكون على قدر كبير من الاهمية حتى ولو كان المحكم واحدا.
وضرورة فرض شرط الكفاءة العلمية ينبع من وجوب تقيد المحكم او الهيئة التحكيمية بالقواعد الاصولية الواجب مراعاتها تحت طائلة تعرض القرار التحكيمي للابطال من قبل القضاء العادي، الامر الذي يُفضي الى افراغ اختيار الخصوم للمحكمين من مضمونه. (راجع البند 9).
8- مدى حرية الخصوم في اختيار المحكمين لجهة الزمان والموضوع: اذا كان اللجوء الى القضاء غير مقيد مبدئياً لجهة الزمان او الموضوع بحيث يمكن للافراد التوجه الى القضاء العادي في اي وقت وبشأن اية منازعة، فان اختيار الخصوم لقضاتهم عن طريق تسمية محكم يقوم بفصل النزاع خارج نطاق القضاء العادي، يبقى مقيدا بالزمان والموضوع.
(أ) – لجهة مدى الاختيار في الزمان: ان حرية الخصوم في اختيار المحكمين مقيدة في حدود الزمان، وتبعاً لذلك يجب ان يحدد الخصوم في اتفاقية التحكيم المهلة التي يتوجب على المحكم او المحكمين القيام خلالها بالمهمة.
واذا لم تحدد مهلة في اتفاقية التحكيم، بنداً كانت او عقداً، فان القانون اللبناني حدد هذه المهلة بستة اشهر تبدأ من تاريخ قبول آخر محكم لمهمته، وتكون المهلة – سواء اكانت اتفاقية او قانونية – قابلة للتمديد إمّا باتفاق الخصوم وإمّا من قبل القضاء العادي بناءً لطلب احد الخصوم او الهيئة التحكيمية (773 أ.م.م.)
ويترتب على انقضاء المهمة تلاشي مفعول اختيار الخصوم لمحكميهم بحيث تنقضي الخصومة في التحكيم، بانقضاء المهلة (المادة 781/3 أ.م.م. ).
واذا اصدر المحكمون قرارهم ضمن المهلة، فيفقدون حقهم في تفسير القرار او تصحيح ما يقع فيه من اغلاط او اكماله في حال اغفاله الفصل في احد المطالب اذا كانت المهلة قد انقضت (المادة792/2 أ.م. م.).
وكل قرار تحكيمي يصدر بعد انقضاء المهلة يبقى معرضا للابطال من قبل القضاء العادي (المادة 800/1 أ.م.م.). واذا كان القرار صادرا في تحكيم دولي يبقى بالإمكان الطعن استئنافا بالقرار الذي يمنحه الصيغة التنفيذية (المادة 817/ 1 أ.م. م.).
(ب) ـــ لجهة مدى الاختيار بالنسبة للموضوع: ان اختيار الخصوم للمحكمين يبقى مقيدا ايضا بتحديد مهمة المحكمين، بمعنى ان اختيار محكم معين من قبل خصمين لا يولي المحكم سلطة الفصل بأي نزاع وبأي موضوع كان قد ينشا بين هذين الخصمين، بل لا بد من تحديد مهمة المحكم على وجه الحصر، واذا خرج المحكم عن حدود المهمة المحددة له فيبقى قراره معرّضا للابطال من قبل القضاء العادي (المادة 800/3 أ.م. م.) واذا كان القرار التحكيمي صادرا في تحكيم دولي فيبقى بالامكان الطعن بطريق الابطال بالقرار الذي يمنحه الصيغة التنفيذية للسبب المتقدم (المادة 819 معطوفة على المادة 817 أ.م.م. ).
وبالطبع ان الطعن بالقرار التحكيمي، وقبول الطعن من قبل القضاء العادي للسبب المتقدم، من شانه ان يلاشي مفاعيل اختيار الخصوم للمحكم او المحكمين.
9 ـــ افراغ اختيار الخصوم للمحكمين من مضمونه عند قبول الطعن بالقرار التحكيمي من قبل القضاء العادي: يفسح القانون اللبناني في المجال للطعن بالقرار التحكيمي امام القضاء العادي بعدة طرق هي: اعتراض الغير – اعادة المحاكمة - الاستئناف – الابطال. ولكن طرق الطعن الاكثر شيوعاً هي الاستئناف والابطال.
والمبدأ ان القرار التحكيمي يقبل الاستئناف ما لم يكن الخصوم قد عدلوا عن الاستئناف في اتفاقية التحكيم. واذا كان القرار التحكيمي صادرا عن محكم مطلق فهو لا يقبل الاستئناف ما لم يكن الخصوم قد احتفظوا صراحةً بحق رفع هذا الطعن في اتفاقية التحكيم (المادة 799 أ.م.م.).
وبكل الاحوال يجوز للخصوم الطعن بالقرار التحكيمي بطريق الابطال بالرغم من كل اتفاق مخالف، واسباب الابطال هي التالية:
(1) – صدور القرار بدون اتفاق تحكيمي او بناءً على اتفاق تحكيمي باطل او ساقط بانقضاء المهلة.
(2) – صدور القرار عن محكمين لم يعينوا طبقاً للقانون.
(3) – خروج القرار عن حدود المهمة المعينة للمحكم او المحكمين.
(4) – صدور القرار بدون مراعاة حق الدفاع للخصوم.
(5) – عدم اشتمال القرار على جميع بياناته الالزامية المتعلقة بمطالب الخصوم والوسائل المؤيدة لها، واسماء المحكمين واسباب القرار ومنطوقه وتاريخه وتوقيع المحكمين عليه.
(6) – مخالفة القرار لقاعدة تتعلق بالانتظام العام.
والمادة 819 معطوفة على المادة /817/أ.م.م. تجيز الطعن بالقرار التحكيمي الدولي الصادر في لبنان بطريق الابطال للاسباب الاربعة الاولى المذكورة اعلاه بالاضافة الى سبب آخر هو: - مخالفة القرار لقاعدة تتعلق بالنظام العام الدولي.
ويتبين من تلك الاسباب انها اسباب قانونية يماثل بعضها اسباب النقض او التمييز امام القضاء العادي، ويشكل البعض الآخر منها مخالفة لمبادئ اصولية جوهرية في المحاكمات المدنية، ومن الطبيعي ان عدم مراعاة تلك القواعد او المبادئ يمكن ان يعرّض القرار التحكيمي للابطال.
وفي الواقع ان كثيرا من القرارات التحكيمية الصادرة حتى في تحكيم مطلق تعرضت للابطال من قبل القضاء اللبناني، من هنا وجوب فرض الكفاءة العلمية في شخص المحكم، لعل تلك الكفاءة تجنب القرار التحكيمي الابطال. (راجع البند 7).
لان ابطال القرار التحكيمي – او فسخه بطريق الاستئناف متى كان القرار التحكيمي قابلاً للاستئناف – يؤدي الى الغاء مفاعيل حرية الخصوم في اختيار قضاتهم، وآية ذلك ان ابطال القرار التحكيمي او فسخه عند استئنافه يعيد اختصاص النظر بالنزاع للقضاء العادي ومن ثم يلغي كل دور للخصوم في مجال اختيار المحكمين، الا اذا عاد الخصوم مجددا ومارسوا من جديد حقهم في اختيار التحكيم كطريق لحل النزاع، هذا ما سيتبين لنا من خلال البحث في ممارسة الخصوم لحرية اختيار المحكمين.
الفقرة الثانية: ممارسة الخصوم لحرية اختيار المحكمين
10 ـــ مراحل النزاع التي يجوز فيها للخصوم ممارسة حرية اختيار المحكمين: يجوز للخصوم ممارسة حرية اختيار المحكمين في جميع مراحل العلاقة القانونية بينهم، وهذا يعني انه يجوز لهم ممارسة حرية اختيار المحكمين قبل نشوء اي نزاع بحيث يضمّنون العقد بندا تحكيمياً لإعماله عند نشوء النزاع بينهم، وقد اقر القانون اللبناني نصا بهذا المعنى في المادة /762/ منه التي نصت على ما يلي:
«يجوز للمتعاقدين ان يدرجوا في العقد التجاري او المدني المبرم بينهم بندا ينص على ان تحل بطرق التحكيم جميع المنازعات القابلة للصلح التي تنشأ عن تنفيذ هذا العقد او تفسيره».
ومن ثم يجوز ان يمارس الخصوم حريتهم في اختيار المحكم قبل نشوء اي نزاع بينهم وتحسباً لاحتمال نشوء مثل هذا النزاع.
كما انه يجوز ان يمارس الخصوم حريتهم في اختيار المحكم او المحكمين بعد نشوء النزاع، وبالفعل نصت المادة /765/ على ما يلي:
«العقد التحكيمي عقد بموجبه يتفق الاطراف فيه على حل نزاع قابل للصلح ناشئ بينهم عن طريق تحكيم شخص او عدة اشخاص».
كما فرضت المادة /766/ ان يشتمل العقد التحكيمي، تحت طائلة بطلانه، على تحديد موضوع النزاع «وعلى تعيين المحكم او المحكمين باشخاصهم او بصفاتهم او على تبيان الطريقة التي يعين بها هؤلاء».
والمادة /810/ الواردة تحت عنوان التحكيم الدولي، نصت على انه:
«يجوز ان يعين في اتفاقية التحكيم، مباشرة او بالاحالة الى نظام للتحكيم، المحكم او المحكمون او ان تحدد فيها طريقة تعيين هؤلاء».
ومن ثم يجوز ان تحصل ممارسة حرية اختيار المحكمين بعد نشوء النزاع وقبل ولوج باب القضاء العادي.
ولكن هل يبقى بامكان الخصوم ممارسة حرية اختيار المحكمين بعد عرض النزاع القانوني على القضاء العادي؟
تضمن القانون اللبناني نصا صريحا اجاز فيها للخصوم ممارسة حرية اختيار المحكمين حتى بعد عرض النزاع على القضاء، وبالفعل نصت المادة/ 767/ أ.م.م. على ما يلي:
«يجوز للخصوم الاتفاق على حل النزاع بطريق التحكيم ولو كان موضوعا لدعوى مقامة امام القضاء...»
ومن ثم يصح القول بكلمة موجزة انه يجوز للخصوم ممارسة اختياراهم في تعيين المحكم او المحكمين في جميع مراحل العلاقة القانونية القائمة بينهم سواء قبل نشوء النزاع او بعده او حتى بعد عرضه على القضاء.
ولكن هل يتوجب على الخصوم ممارسة هذا الاختيار بانفسهم ام يصح الاستعانة باشخاص آخرين للممارسة هذا الاختيار عنهم او لمعاونتهم في ذلك؟
أقر القانون اللبناني حق الخصوم بممارسة الاختيار بانفسهم ولكنه افسح في المجال امامهم، للاستعانة باشخاص آخرين للممارسة هذا الاختيار.
11ـــ ممارسة الخصوم لحرية اختيار المحكم او المحكمين بانفسهم مباشرة او عبر الاستعانة بشخص ثالث: يمكن ان يمارس الخصوم حريتهم في اختيار المحكم او المحكمين، في البند التحكيمي او في العقد التحكيمي، وذلك إمّا عن طريق تسمية المحكم بشخصه كأن يتفق الخصوم على تسمية شخص أو اشخاص معينين بالذات للقيام بمهمة التحكيم، وإمّا عن طريق تسمية المحكم بصفاته وليس بشخصه كأن يختار الخصوم مركزا معينا للقيام بمهمة التحكيم (المادتان 763/2 و 766/3 أ.م.م.).
كما يمكن ان يمارس الخصوم حرية الاختيار عن طريق تعيين الطريقة التي يعين بها المحكم او المحكمون (المادة /766/ أ.م.م.).
واذا كان الخصوم عهدوا الى شخص ثالث طبيعي او معنوي لتنظيم التحكيم (راجع البند 5) فالسؤال الذي يطرح عندئذ هو: هل يستقل هذا الشخص بامر اختيار المحكم ام يبقى للخصوم دور في ممارسة هذا الاختيار؟
ابقى القانون اللبناني، في الحالة المتقدمة، على دور هام للخصوم قي اختيار المحكمين، اذ ولّى الشخص الثالث حق تسمية المحكمين على ان يحظى ذلك بقبول الخصوم، بمعنى ان تسمية الشخص الثالث يبقى بدون اية قيمة اذا لم يقبل الخصوم بالمحكمين الذين سماهم الشخص الثالث. وعندها يتوجب على الشخص المكلف بتنظيم التحكيم ان يدعو كل خصم ليعين محكما واحدا من قبله ويتولى الشخص الثالث بنفسه عند الاقتضاء تعيين المحكم اللازم لاكمال الهيئة التحكيمية (المادة 772 أ.م.م.).
ولكن ماذا لو رفض الخصوم او احدهم تعيين محكم من قبلهم او من قبله؟
في هذه الحالة يكون من حق الشخص المولج بتنظيم التحكيم ان يقوم هو نفسه بتعيين محكم او محكمين بدل الذي او الذين تخلفوا عن اختيار المحكم، وعندها يكون حصل تعيين المحكم او المحكمين دون ان يكون للخصم او للخصوم المتخلفين اي دور في ممارسة حق اختيار شخص المحكم او المحكمين عند تعددهم.
ولكن اذا تعثرت مسألة ممارسة الخصوم لاختيار المحكم او المحكمين سواء بصورة مباشرة او بواسطة شخص ثالث، هل تبقى هناك وسيلة بديلة عن ممارسة الخصوم او احدهم لحرية اختيار المحكم او المحكمين؟
12ـــ حلول القضاء العادي محل الخصوم في ممارسة اختيار المحكم او المحكمين: يمكن احيانا ان تقوم عقبة في سبيل تعيين المحكم او المحكمين بفعل الخصوم او احدهم او بسبب طريقة تعيينهم، وعندها يمكن ان يقوم القضاء العادي – وهو يتمثل في لبنان برئيس الغرفة الابتدائية لدى محكمة الدرجة الاولى – بهذا التعيين، وذلك في الحالات التالية:
(أ) – اذا حصل بعد نشوء النزاع ان قامت عقبة في سبيل تعيين المحكم او المحكمين بفعل احد الخصوم او لدى تطبيق طريقة تعيينهم (المادة 764/أ.م.م.).
فاذا حصل بعد نشوء النزاع ان قامت عقبة في سبيل تعيين المحكم او المحكمين، عندها يمكن ان يتم التعيين من قبل رئيس الغرفة الابتدائية لدى محكمة الدرجة الاولى. فقد يمتنع احد الخصوم عن الاشتراك او الاتفاق مع الخصم الآخر عن تعيين المحكم الفرد او عن تعيين المحكم المطلوب منه تعيينه، وعندها يمكن ان يتم التعيين من قبل رئيس الغرفة الابتدائية.
(ب) – اذا عين الخصوم محكمين اثنين او محكمين بعدد مزدوج فلا بد عندها من اضافة محكم آخر الى الذين اختارهم الخصوم حيث يصبح العدد وترا، وعندها اذا تعذر اتفاق الخصوم على تعيين او طريقة تعيين المحكم اللازم لاكمال الهيئة، فيتم هذا التعيين باتفاق المحكمين المعينين من قبل الخصوم، وعند تعذر الاتفاق فيمكن ان يحصل التعيين من قبل رئيس الغرفة الابتدائية (المادة /771/ أ.م.م.) ويتم التعيين على الوجه المتقدم من قبل رئيس الغرفة الابتدائية حتى بالنسبة للتحكيم الدولي متى كان هذا التحكيم حاصلا في لبنان (المادة 810/2 أ.م.م.).
في مثل الحالات المتقدمة يقوم القضاء العادي بمساعدة الخصوم في مجال ممارسة اختيار المحكم او المحكمين وذلك متى كانت الصعوبات القائمة تسمح للقضاء العادي بتعيين المحكمين، ولكن يمكن ان تصل الصعوبات احيانا الى حد يمنع حتى القضاء العادي، من تعيين المحكم او المحكمين، فهل يبقى من مجال امام الخصوم لممارسة حرية اختيار المحكم او المحكمين مباشرة او بمؤازرة الغير؟ ام ان هذا الخيار يسقط نهائيا؟
13 ـــ الصعوبات التي قد تلغي حرية الخصوم في اختيار المحكمين: اذا كان يصح ان يقوم القضاء العادي او شخص ثالث في مؤازرة الخصوم في تعيين المحكم او المحكمين، فقد تقوم صعوبات اكبر تمنع الخصوم من ممارسة حريتهم في اختيار المحكم سواء بانفسهم او بواسطة اشخاص ثالثين او حتى بواسطة القضاء العادي، وذلك في الحالات التالية:
(أ)- اذا طلب من القضاء العادي تعيين المحكم او المحكمين في الحالات التي يصح فيها هذا التعيين من قبل القضاء العادي (راجع البند 12) فقد يجد رئيس الغرفة الابتدائية ان هناك صعوبات، رافقت منذ البداية وضع البند التحكيمي، تحول دون تعيين المحكم او المحكمين كأن يكون البند التحكيمي باطلا بشكل واضح او غير كافٍ لتعيين المحكم او المحكمين، وعندها يعلن ان لا محل لتعيين المحكم او المحكمين (المادة 764/2 أ.م.م.) .
(ب) - ان ممارسة الخصوم لحريتهم في اختيار المحكم ليس مطلقا، اذ لا بد من قبول المحكم كتابةً بالقيام بمهمة التحكيم، (المادة 769/أ.م.م.) ومن ثم اذا رفض المحكم المعين في عقد التحكيم المهمة الموكولة اليه، فيعتبر عندئذ عقد التحكيم ساقطا (المادة 766/3 أ.م.م.).
(ج)- كذلك يمكن ان تُستجد صعوبات لاحقة تنجم عن شخص المحكم ذاته ويكون من شانها ان تلغي مفاعيل اختيار الخصوم للمحكم، وذلك في الحالات التالية:
وفاة المحكم.
قيام مانع يحول دون مباشرة المحكم لمهماته.
حرمان المحكم من استعمال حقوقه المدنية.
ففي الحالات السابقة تنتهي الخصومة في التحكيم ما لم يكن هناك اتفاق خاص بين الخصوم على عكس ذلك (المادة 781 أ.م.م.) كما لو كان هناك اتفاق بين الخصوم على استبدال المحكم بغيره في مثل الحالات المتقدمة.