الدكتور حلمي محمد الحجار و راني حلمي الحجار01/01/2013
مقدمة
1 ـ المنهجية تنـير للباحث طريق الوصول إلى الحقـيقة التـي يسعى إليها: يخضع كل علم في تحقيقه وإثباته إلـى منهجية معينة، وتتجلـى الـمنهجية بمجموعة من التوجيهات والضوابط تـحكم عمل الباحث فـي سعيه نـحو الوصول إلى حقـيقة معينة، فهناك أدوات للبحث لا بد من الإحاطة بها ثم هناك طريق لا بد من سلوكه عند استعمال تلك الأدوات. فغاية الـمنهجية هي أن يحسن الـمرء توجيه فكره عند بحثه عن الـحقـيقة فـي علـم من العلوم)1(.
فقد تتساوى الـمعلومات والقدرات الشخصية عند الأفراد أحياناً ورغم ذلك فإنهم قد لا يتساوون فـي الاهتداء إلـى الـحقـيقة التـي يبحثون عنها، إذ يـمكن أن تـختلف وتتنوع أراؤهم وأحكامهم فـي الـموضوع ذاته وعندها لا يـمكن القول أن هذا التنوع سببه فقط كون البعض أكثر فطنة أو إدراكاً أو معرفة بالموضوع الـمبحوث، بل إن سبب ذلك قد يعود لاختلاف الـمنهج الذي يحكم تفكير كل منهم وتوفره عند البعض وفقدانه عند البعض الآخر. فالمنهج قد يدفع المرء إلى التركيز علـى أشياء وزوايا من شأنها أن تنـير جوانب من بحثه قد تـختلف عن الأشياء والزوايا التي يركز عليها من لا يمتلك مثل ذلك المنهج. وإذا كانت
العقول الكبـيرة مؤهلة للقـيام بـاسمى الفضائل إلا أنها معرضة للوقوع بأكبر الرذائل. ولعل في المنهج الذي اعتـمدته السلحفـاة فـي سبـاقها مع الأرنب خير دلـيـل على ذلك، فالذي يهديه منهجه إلى صراط مستقـيـم يـمكنه، ولو بخطى وئيدة، أن يبلغ هدفه قبل غيره مـمن يسابق الريح ولكنه ضل تلك الطريق. فـالـمنهج يزوّد صاحبه بحجة أقوى تنـم عن فكر منظم يتصف بـالوضوح ويعطيه قدرة أكبر علـى الإقناع.
وتعتبر الـمنهجية مسلـمة لا يـمكن لأيّ بـاحث تجاهلها، فلا بد لغير الـمـمتهن من الرجوع إلـيها وفـي نفس الوقت لا يسع الممتهن إلا أن يفـيد منها)1(.
وقد توصل ديكارت إلـى مـجموعة من القواعد فـي توجيه الفكر (Les Règles pour la direction de L'esprit) تتصف بعموميتها، وتلك القواعد أربعة)2(:
القاعدة الأولـى: عدم أخذ أي أمر علـى أنه حقيقة، إلا إذا تـجلّت حقـيقته بصورة واضحة، وهذا يفرض تجنب التسرع والأحكام الـمسبقة.
القاعدة الثانـية: تجزئة الصعوبـات موضوع البحث ـ أي بحث ـ إلـى أكبر قدر مـمكن من الـجزئيات فـيسهل حلّها.
القاعدة الثالثة: توجيه الفكر بشكل منظّم، بدءاً بـالـمواضيع والأشياء الأبسط والأسهل للفهم ثم الارتقاء درجة درجة نـحو الأشياء والـمواضيع ومن ثم الـمعارف الأكثر تعقـيداً.
القاعدة الرابعة: إحصاء كل الأمور بشكل كامل، ثم إجراء مراجعة شاملة وعامة حتـى لا يغفل أو يهمل شيء.
وإذ كان يصح اعتـماد تلك القواعد فـي مختلف العلوم، فلا شك أنها تنطبق أيضاً علـى علـم القانون.
2 ـ القانون ـ المعاني المختلفة لكلمة قانون (droit): تحتـمل كلـمة قانون معنـيـين يكمل بعضهما بعضاً.
الـمعنى الأول: يدل علـى مـجموعة معينة من القواعد القانونـية تنظم جانبـاً معيناً من جوانب الـحياة الاجتـماعية واردة بأرقام متسلسلة وبترتـيب معين ضمن قانون (Code) صادر عن السلطة التشريعية، كقانون السير، أو قانون العقوبـات، أو قانون الـموظفـين أو الدستور.
الـمعنى الثانـي: يدل علـى جميع القواعد القانونـية التـي تنظم العلاقات الاجتـماعية وتـحكم سلوك الأفراد فـي الـمـجتـمع، فـيظهر كقواعد سلوكية اجتماعية مقرونة بجزاء، الأمر الذي يفرض علـى الأفراد الانصياع إلـيها وإلا تعرّضوا للـجزاء؛ ومن ثم عندما يقال أن القانون يضع حلاً لقضية معينة فـيعنـي ذلك أن هناك قاعدة قانونـية تنظم تلك القضية مع غيرها من القضايا الـمـماثلة وتضع لها حلاً قانونـياً)1(.
وينتج عن المعنيين المتقدمين، لكلمة «قانون»، أن القانون ولـيد الـحياة الاجتـماعية ويتطلّب الإحاطة بأنواع مختلفة من المعرفة والعلوم.
(أ) القانون وليد الحياة الاجتماعية: إنّ القانون هو ثمرة الحياة الاجتماعية، أي أنه كان نتيجة حتمية لعيش الإنسان ضمن المجتمع؛ فعندما كان الإنسان يعيش فـي الـحالة الطبـيعية لـم يكن هناك من حاجة لقواعد قانونية تنظم حياته وتحدد له سلوكه، ولكن بعد أن انتقل من الحالة الطبيعة إلى الحالة الاجتماعية كان لا بد من وضع قواعد سلوكية للأفراد تؤمن انتظام الحياة في المجتمع، وقد تطورت تلك القواعد بتطور الـحياة الاجتـماعية، فأصبح القانون ملازماً لـحياة الفرد فـي كل مظاهر نشاطه.
وإذا كان الإنسان لا يعير وزناً أحياناً للقانون، إلا أنه يبقـى علـى احتكاك دائم به لأنه يلازم حياته الـيومية وفـي كل عمل يقوم به، من قـيادة السيارة (قانون السير) إلـى العمل الذي يتعاطاه (قانون العمل أو نظام الموظفـين) أو داخل منزله وعلاقاته مع أفراد عائلته (قانون الـملكية العقارية أو قانون الإيجارات - أحكام الزواج وما يتفرع عنه من ارتبـاطات ومسؤولـيات عائلية). من هنا يظهر القانون كحقـيقة ملازمة لـحياة الإنسان ضمن الـمـجتـمع، ولكنها حقـيقة تنظم حياة الإنسان وتفرض علـيه التزام سلوك معين يتـحقق من خلاله التآلف والانسجام داخـل الـمجتـمع؛ وبعارة أخرى إنّ الحاجة إلى القانون لا تتـجلـى إلا عند عيش الإنسان ضمن الـمـجتـمع، فـالإنسان ككائن اجتـماعي ميّال بطبعه إلـى العيش فـي مـجتمع، وإلى إقامة علاقات اجتماعية مع بقـية أقرانه.
والـحياة الاجتـماعية تُبْرِز بذاتها فكرة القانون، وذلك لعدة أسبـاب: فـالقانون يـمنع حكم القوي، يـمنع العنف، يـمنع التـحكم. ويعترف لأفراد الـمـجتـمع بحقوقهم ومن ثم يتجه لـحماية تلك الـحقوق عن طريق إيجاد حلول للنزاعات التـي يـمكن أن تنشب بـين أفراد الـمـجتـمع، فالنزاعات ضمن المجتمع هي في صلب معنى القانون وهو الذي يتكفل بحل تلك النزاعات.
(ب) علـم القانون يتطلب الإحاطة بأنواع مختلفة من الـمعرفة والعلوم: إن القانون يتضمن بذاته معارف متنوعة، فكل قانون وكل قاعدة أو مجموعة من القواعد القانونـية تحتوي بذاتها، على مجموعة من المعطيات من الـمعطيات الـمستـمدة من صميـم الـحياة الاجتـماعية، وعلـى حلول يتضمنها القانون لذلك الـجانب من جوانب الـحياة. وفهم تلك الـمعطيات لا يقتصر علـى فهم القواعد القانونـية والـحلول التـي تقررها القواعد، بل يتطلب أيضاً فهم الأحداث الـيومية الـمرتبطة بـالقاعدة القانونـية، سواء ظهر الارتبـاط فـي مرحلة تكوين القاعدة أو فـي مرحلة تطبـيقها.
ولا شك في أن تكوين القاعدة القانونـية وتطبيقها يعتبران مؤشرين على المستوى الثقافي والحضاري للمجتمع الذي ولدت فـيه القاعدة.
وإذا كانت القاعدة القانونية توفر بذاتها أنواعاً كثيرة من الـمعرفة، إلا أنها تبقى مرتبطة بالعلوم المختلفة برابطة وثـيقة، لأن كل تطور يطال بقـية العلوم، كالفلسفة والطب والهندسة والـمعلوماتـية لا بد أن يترك بصماته علـى القانون.
3 ـ علـم القانون والـمنهجية: أورد فرنسوا جينـي، فـي كتابه عن مصادر القانون والمنهج لتفسيره)1(، أن أحد زملائه قال:هناك وجهان في كل نوع من أنواع المعرفة: الوجه الأول هو الـمبـادىء (les principes)، والوجه الثانـي هو التطبـيقات (les applications).
المبادىء تنتمي إلى العلـم أمّا التطبـيقات فتـجسّد الفن بوضع هذا العلـم موضع التطبـيق. وهذا التمييز بين العلم والتطبيق الذي تـخضع له كل أنواع المعرفة، يضفي بظلاله ويهيمن على كل الأبحاث والدراسات القانونـية، إذ هناك نوعان من القانون، النوع الأول: هو القانون الـمـحض (droit pur) النوع الثانـي: هو القانون فـي وجهه التطبـيقـي.
والقانون الـمـحض هو القانون الـمثالي الذي يرتكز على ثوابت الطبـيعة البشرية ومقوّمات الـحياة الاجتـماعية، ومن ثم فإن موضوعه ينصبّ علـى التميـيز بين العدالة والظلم بـالمطلق أي بصرف النظر عن حدود الزمان والـمكان، وهذا هو علـم القانون.
أما القانون في وجهه التطبـيقـي فهو يهتـم بحل الـمشاكل ضمن حدود الزمان والـمكان، وهنا يظهر القانون بـمظهر القانون الوضعي والـمكتوب، القانون الذي يتناسب مع الغايات التـي حتـمت وجوده، القانون المفَسَّر والمطبق طبقاً لنصه وروحه، القانون الذي يعطي الـحلول للمشاكل المعقدة والمتنوعة الـمنبثقة من حياة الإنسان ضمن الـمـجتـمع وتوالي الأحداث اليومية في هذا المجتمع بكل أوجهها العملية.
فكيف يتـم التوصل إلـى تلك الـحلول؟
إذا كانت الـحياة القانونـية تختصر فيما مضى بعبارات الفطنة أو الـحس السلـيـم أو العادة أو الـمـمارسة والخبرة التي تتوفر عند رجل القانون)1(، فإنّ جـهوداً كبــرى بذلت من قبل بعض جهابذة القانون لإثبـات أن علـم القانون يخضع لـمنهجية تـحكمه أسوة ببقـية العلوم)2(.
وإذا كان رجل القانون الذي امتلك أسرار مهنته يصل بدون أي جهد إلـى استـخراج العناصر القانونـية لأية قضية يبحثها ويستطيع بـالتالـي أن يضع النزاع بسهولة فـي إطاره الصحيح، فلـيس معنى ذلك أنه لا توجد أية قواعد أو مبـادىء قانونـية فـي هذا العمل وأن الأمر يتوقـف فقط علـى فطنته وحدسه)3(، بل يعنـي ذلك أن الـمـمتهن امتلك الـمنهجية من خلال التـجربة والـخبرة.
فـالقانون هو بحث دائم عن الـمعرفة ومـمارسة يومية يتعاطاها من يضع القاعدة القانونـية، من يدرسها، من يفسرها، من يطبقها، من يبحث عن الـحلول التـي تتضمنها، ومن ثم هناك أعمــال متنوعة تتعلق
بالقانون وتختلف باختلاف موضوعها والغاية منها، فهناك الأعمال التـي تنصب علـى حل نزاع قانونـي سواء طرح النزاع علـى الطالب بشكل مسألة عملـية، أو طرح علـى المحامي لإعطاء النزاع مجراه القانونـي للوصول إلـى الـحل، أو طرح علـى القاضي للفصل فـيه.
ثم هناك دراسة الـمواضيع القانونية سواء تعلقت الدراسة ببحث موضوع قانوني أو بالتعليق على نص قانوني أو على قرار قضائي.
ويحاول رجل القانون الـمـمتهن أو الطالب أثناء الدراسة، أن يتلـمس الـمنهجية التي يمكنه اتباعها لإنـجاز عمله، علّ الـمنهجية تهديه إلـى الطريق القويـم.
4 ـ تدريس المنهجية والافتقار إلى المراجع: لـم تكن الـمنهجية فـي القانون تدرس فـي كلـية الـحقوق كمادة مستقلة، بل كان الطالب يستكشف بعض ضروبها عَرَضاً بـمناسبة حل المسائل أو التعلـيق علـى القرارات القضائية أو وضع الأبحاث القانونـية فـي بعض المواد، وإذا ما انتهى من الدراسة وانتقل إلـى مـمارسة حياته الـمهنـية في حقل القانون فـيتلـمس بعض ضروب الـمنهج لعمله من خلال الممارسة والخبرة. وإذا حاول البـاحث أن يفتش عن مرجع يهديه إلـى المنهجية التي يجب علـيه اتبـاعها فلا يجد أي مرجع عام بهذا الـموضوع فـي الـمكتبة اللبنانـية خصوصاً والـمكتبة العربـية عموماً. ففي المكتبة اللبنانية هناك مثلاً كتاب يتعلق بـالتـمارين العملـية فـي القانون الـجنائي العام فقط)1(، أما فـي الـمكتبة العربـية فهناك بعض الكتب أو الكتـيبات المعدودة الـمتعلقة فقط بكيفـية كتابة الأبحاث والرسائل)2(. بـينما نـجد أن المكتبة الفرنسية غنية
غنـية بكتب الـمنهجية فـي القانون.
ولعل الـملاحظات الـمتقدمة هي التـي دفعتنا لوضع هذا الكتاب لـيكون دلـيلاً للطالب فـي الـجامعة فـي مرحلتـي الإجازة والدراسات العلـيا، ثم فـي حياته الـمهنـية بعد الانتهاء من الدراسة، وعلى أمل أن يكون بداية لسد نقص فـي الـمكتبة اللبنانـية والـمكتبة العربـية علـى السواء.
وكنا اقترحنا تدريس مادة الـمنهجية فـي القانون كمادة مستقلة خلال الدراسة فـي كلـية الـحقوق فـي الجامعة اللبنانية وبالأخص فـي مرحلة الدراسات العلـيا، فتقرر تدريسها فـي السنة الأولـى من سنوات الإجازة ابتداء من العام الدراسي 1996/1997. وبـالطبع هذه خطوة تـحقق فـائدة كبرى للطلاب خلال دراستهم الجامعية في مرحلتي الإجازة والدراسات العلـيا، كما توفر لهم منهجاً سلـيـماً يهتدون به عند امتهان العمل فـي الـمـجال القانونـي بعد الانتهاء من الدراسة الـجامعية.
5 ـ مضمون الكتاب ـ تصميـم: يفترض بـالـمنهج أن يهدي الطالب أو الـمـمتهن إلـى الطريق القويـم لبلوغ غايته في جميع الأعمال التـي يقوم بها. وتندرج الأعمال، علـى تنوعها، ضمن إحدى الفئتـين التالـيتـين:
الفئة الأولـى: الأعمال التـي يقوم بها رجل القانون الـممتهن أو الطالب فـي حل نزاع قانونـي بمعرض قضية مخصوصة تعرض علـيه ككتابة الاستـحضارات واللوائح والـمذكرات أو تحضير المرافعات من قبل الـمـحامين أو كتنظيم الحكم القضائي الذي يفصل نزاعاً عرض علـى الـمـحكمة، أو كحل مسألة عملـية تعرض على الطالب. وهذا النوع من العمل يخضع بـالنهاية للبحث عن القاعدة القانونـية التـي ترعى الـمادة موضوع النزاع ومن ثم تطبـيق هذه القاعدة عـليها وصياغة العمل القانوني بما يتلاءم مع النتـيجة التـي توصل إلـيها البـاحث بنتـيجة عمله. ويمكن هنا اعتـماد منهجية علـمية تفـيد الباحث فـي الوصول إلـى الـحلول التـي ينشدها.
الفئة الثانـية: الأعمال التـي يقوم بها الـمـمتهن أو الطالب أثناء الدراسة فـي سبـيـل ترسيخ الـمعلومات النظرية وتنمية الفكر القانونـي عنده وحسن استعمال الـمعلومات النظرية فـي مجال التطبـيق العملـي، كتـحضير بحث بـموضوع قانوني معين أو التعليق على نص قانونـي أو على قرار قضائي. وهذا النوع من العمل يفـيد أيضاً من المنهجية بـالقدر ذاته الذي يفـيد منها النوع الأول.
ومن ثم نبحث في المنهجية التي يصح اعتمادها في كل عمل من تلك الاعمال مع اعطاء امثلة تطبيقية عن كل منها.
وتبعاً لذلك سنقسم الكتاب الى قسمين:
القسم الاول : منهجية حل النزاعات القانونية
القسم الثاني: منهجية وضع الدراسات القانونية
مع الإشارة إلى انه بسبب تقرير تدريس المادة في السنة الأولى رأينا من المناسب التوسع في شرح مفهوم القاعدة القانونية ومصادرها لان الطالب في السنة الأولى لا يمكنه فهم المنهجية قبل ان يفهم القاعدة القانونية.